أبو أيمن الزقّة يصنع عجينة الكنافة بنابلس منذ نصف قرن

في احد أزقة حارة العقبة، احدى حارات نابلس القديمة، يجهد بلال عبد الفتاح الزقّة (64 عاما) في صنع “عجينة الكنافة” بأنواعها المختلفة (الناعمة والخشنة والمحيرة)، والتي تعد المادة الاساسية لصناعة الكنافة النابلسية الشهيرة.
لقد احترف الزقّة أو (ابو أيمن) صناعة عجينة الكنافة، منذ اكثر من خمسين سنة، بعد ان ارسله والده الذي كان يعمل خياطا للعمل في احد اشهر محلات الحلويات في المدينة، ولم يكن عمره يتجاوز آنذاك 13 عاما، من أجل أن يتعلم مهنة، وكي يساعد والده في تحمل نفقات اسرتهم الكبيرة ( 12 نفرا). وقدِّر للرجل فيما بعد، أن يكون من أوائل من طوّروا صناعة عجينة الكنافة، ونقلها من الصناعة اليدوية الى الآلية.
تدور عجلة آلة صنع العجينة في محل الزقّة البسيط والبعيد قليلا عن زحمة السوق، فيما يحاول سكان حارة العقبة استعادة دورة حياتهم الطبيعية، والاستفاقة من صدمة الاحداث المؤسفة والصعبة التي عصفت بالبلدة القديمة مؤخرا، في مشهد غير مألوف وغير مرغوب به من قبل الجميع، فالناس هنا يصنعون الكنافة ويكرهون الدم.
بداية العمل
كان الزقَة أكثر ارتياحا وتحمسا وهو يقفز عن الحاضر، ويستحضر الماضي البعيد، ويعود بالذاكرة الى بدايات عمله في هذا المجال والتي شكلت نقطة تحول محورية في حياة الرجل.
“كان ذلك قبل احتلال نابلس عام 1967 بفترة وجيزة، عندما ارسلني والدي للعمل لدى محل (حلويات مفيد ابسيس) الذي كان يقع في مركز المدينة مقابل (كراج اليرموك) في ذلك الوقت”، يقول الزقة.
كراج اليرموك
ويتذكر الرجل تماما كيف كان الركاب يتجمعون في (كراج اليرموك) ومعهم حقائبهم واغراضهم، للسفر مباشرة الى عمان أو دمشق او بيروت. ويذكر جيدا ان السيارات كانت من الانواع الامريكية القديمة. ويقول بعد تنهيدة طويلة: “كم كانت الحياة جميلة وبسيطة”، مضيفا “كان الناس أكثر تواضعا وودا واحتراما لبعضهم البعض”.
أخذ الزقة يتعلم ويتقن صنعته الجديدة، وعندما أيقن انه اصبح “صاحب صنعة”، ترك المدرسة وتفرغ للعمل، مشيرا الى ان عائلته كانت حريصة على ان يتعلم كل شخص فيها مهنة او صنعة حتى ولو لم يعمل بها، باعتبارها سلاحا يمكن ان يستفيد منه اذا ما اشتدت عليه الحياة.
احتلال نابلس
وتزخر ذاكرة الزقة بالاحداث التي مرت بها نابلس خلال الخمسين سنة الماضية، فهو يتذكر مثلا يوم سقوط نابلس في حرب الـ67 ، مشيرا الى ان الدبابات الاسرائيلية جاءت من الجهة الشرقية للمدينة، وقد خرج الناس لاستقبالها في باديء الامر معتقدين انها دبابات عراقية. ويتذكر كذلك صوت القصف من طائرات الاحتلال في معركة وادي التفاح غرب المدينة والتي استشهد فيها جنود من الجيش الاردني بقيادة الشهيد ابو هاشم التلاوي خلال تصديهم لاحتلال المدينة.
ويقول بأنه بعد سقوط المدينة تعطلت الحياة فيها لنحو اسبوعين، ومن ثم بدأ الناس يعودون تدريجيا لاعمالهم في ظل مرحلة جديدة، مرحلة الاحتلال.
ويشير الى انه وبعد عودتهم المتقطعة للعمل في محل الحلويات، حضر ضابط اسرائيلي وسأل صاحب المحل “لماذا لا تعودون الى اعمالكم بشكل طبيعي؟”، فاجابه: “اننا بانتظار ان ترحلوا من هنا”، فرد الضابط: “احنا هون مطوّلين”.
تنقل الزقة في عمله بين نابلس ويافا وعمان، واستقر به المطاف عام 86 بافتتاح محل له في حارة العقبة والذي ما زال يديره حتى الآن.
بوابة حديدية
بعد اندلاع اندلاع الانتفاضة الاولى، نصبت قوات الاحتلال بوابة حديدية عند مدخل الزقاق المؤدي الى محل الزقّة في حارة العقبة ما ادى الى انفصاله عن السوق، فاضطر لاقتصار العمل على صناعة عجينة الكنافة فقط، والخروج لبيعها بواسطة عربة متجولة في مركز المدينة، واستمر الحال كذلك لعدة سنوات.
ادخال الآلة الى العمل
كان الزقة الذي احترف صناعة العجينة التي تصنع من (السمن والطحين والحليب) اول من ادخل الآلة الاوتوماتيكية لصناعة عجينة الكنافة، الى الضفة الغربية في عام 1984، حيث اشتراها من قطاع غزة ونقلها الى نابلس، فاستغنى بذلك عن الطريقة اليدوية التقليدية، فشكل ذلك نقلة نوعية في العمل وتوفير الجهد وزيادة الانتاج، واصبح له زبائن من المدن الاخرى، غالبيتهم من اصحاب محلات الحلويات.
تراجع العمل خلال الانتفاضة الثانية
ومع دخول الانتفاضة الثانية، واغلاق مدينة نابلس لسنوات، والاجتياحات المتكررة اخذ عمل الزقة بالتراجع، ففقد القدرة على التسويق خارج المدينة واصبح تسويقه مقتصرا على زبائنه داخل المدينة، ومع زيادة عدد محلات الحلوى في المدينة في السنوات الاخيرة واقتنائهم آلات شبيهة بالتي يملكها، تراجع العمل اكثر وأكثر، ولم يعد الزقة بلال للعمل كما في السابق، مشيرا الى ان لتقدم السن دوره ايضا في هذا المجال.
في المناسبات
ولا يزال الزقة يتذكر المناسبات التي كان يزدهر بها عمله، كشهر رمضان، والاعياد، وايام الشعبونية التي تشتهر بها نابلس حيث يقبل الناس على شراء الحلوى لتقديمها لاقاربهم وضيوفهم، لكنه يقول بنوع من الحسرة ان مناسبات هامة مثل الشعبونية بدأت بالاختفاء، وذلك بسبب تزايد عدد الناس وانشغالهم عن بعضهم البعض وضعف الترابط الاسري، مضيفا بأن “الانترنت هذه الايام قد شغل الناس، وتراهم في المجلس الواحد لا يتحدثون مع بعضهم البعض وكل واحد منهم منشغل بهاتفه”.
“القدس” دوت كوم – عماد سعاده
رابط قصير:
https://madar.news/?p=11602