المثقّف العربي ومعادلة الاضطراب الفكري
مأمون شحادة*
لم تكُن مُعادَلة الاضطراب الفكري واضحة أمام المثقّف العربي، ولا هي مُتناثِرة بين عناصر المجالات الحياتيّة، إلّا بعد سقوط القبّعة من على رأس جعبة الأفكار وامتدادها الاجتماعي.
يقف مثقّف أمّة الضّاد أمام واقعٍ ضبابيّ، وأمام حِقَب مضت بعناوين كثيرة حُملت على سفينةٍ تلاطمها الأمواج، بغضّ النّظر عن المكان الذي ترسو فيه؛ إلّا أنّ سخونة الأجواء السياسيّة عصفت بشراعها، ليصبح المثقّف أسير واقعه وماضيه، باحثاً عن معادلة نقد الذّات والواقع والتاريخ.
حالة الجمود التي وصلت إليها طبقة المثقّفين العرب أرخَت بظلالها على الشارع العربي جرّاء التغنّي بتجارب الحراك العالَمي وعلى رأسه الثورة الفرنسية.
الفصام الثقافي الذي وصل إليه العديد من أفراد تلك الطبقة أدّى إلى ازدواجية الرؤية تجاه الثورات العالمية، قياساً، وأضاف إلى الشارع حالة مُبهَمة ضبابية عَصفت بالفكر العربي إلى الهاوية؛ لأنّ من طبيعة التشكّل الاجتماعي، أنّ لكلّ مجتمع خصائصه وثقافته المحدّدة. فالعِلم يمكن الحصول عليه من أيّ مكان. أمّا الثقافة فلها خصوصيات، وأهل مكّة أدرى بشعابها.
الثورة الفرنسية لها ظروفها وثقافتها المجتمعيّة، والحراك العربي له ظروفه وثقافته، والمقاربة بين الحالتَين سذاجة كبيرة واستهانة بالعقول، ويجب معرفة أنّ الغرب عندما كان يتحرّر، كان يُصدِّر مشكلاته إلى خارج حدوده الإقليمية، بعكس الحالة العربية، التي أصبحت تستورد كلّ مشكلات الدّول المحيطة والعالمية، لدرجة أنّها تحوّلت من قضية راسخة إلى مسألة تنتظر الحلول كافّة.
التجارب التي عَصفَت بالمثقّف العربي كثيرة ومتنوّعة، فـ”مثقّف” اليسار والاشتراكية والشيوعية ينادي بشعارات هُزمت في موطنها الأصلي، فتلك التجارب بعيدة كلّ البعد عن ثقافة التجربة العربية، سلوكاً، وتوجّهاً ومضموناً.
والمثقّف الإسلامي يتبنّى شعارات يُختلف عليها بين الراديكالية والسلفية والدعوية، حتّى مَن يُنادون بالتجربة الأردوغانية، ينبذون شعار القومية في بلدانهم، مع العلم أنّ الجمهورية التركية بُنيت على أساس هذا الشعار وما زالت متمسّكة به حتّى الآن.
أمّا مثقف القومية العربية، فيقرأ الواقع العربي وفقاً للفصل بين متطلّبات القومية، ويحاول بناء تاريخ فوق التاريخ، مُتجاهِلاً التاريخ المشترك، وتجاربه التي توجز الكثير من مستقبل مُبهَم يتطلّع إليه.
كذلك المثقّف الليبرالي، يتبنّى أفكاراً مُستنسَخة عن المجتمعات الغربية، التي لا تتواءم حتّى الآن وثقافة المنطقة العربية. ناهيك بالمثقّف الديمقراطي، الذي يعتقد أنّ الديمقراطية عصا سحرية تُلائِم المجتمعات كافّة… والقائمة طويلة.
دوّامة التراكمات
انشطار الثقافة العربية بين مثقّف يؤيّد النّظام وآخر يؤيّد الحراك العربي الشعبي، أظهر كمّاً هائلاً من المعضلات الفكرية، التي انهكت البلاد العربية مدّاً وجزراً، كلّ يرخي بظلاله على الآخر. فالمحصلة واضحة من وراء غربال فضفاض تترامى أطرافه الدائرية بين كسر الأنا والآخر، مُظْهِرة تراكمات مثقّف ينحصر بين تبعية إقليمية ودولية تُساند الأنظمة من جهة، والحراك من الجهة الأخرى، في دلالةٍ على مدى تَرهُّل تلك التراكمات، التي تجسّدت في رواية تغذّت على الشعبوية، لترسم حاضراً أكثر فداحة، وكأنّ المثقّف في حالة من التيه، لا يستطيع بناء معادلة الدّولة إلّا من خلال رؤية مَن يرسم طريق التبعية للآخر.
معادلة انشطار الثقافة لم تقِف عند هذا الحدّ، بل تجاوزت كلّ ما كان يتوقّعه العقل، حيث ظهرت حلقات المصارعة الفكرية، على الهواء مباشرة، بين أفراد النُّخبة المثقّفة، الذين تعاركوا بالأيدي، وهُم يشتمون بعضهم بألفاظٍ نابية، ما أدّى إلى إحداث شرخ عميق بين أفراد المجتمع وتلك النُّخب.
“التباعد الثقافي” بين مشرق الوطن العربي ومغربه
هنا يتوقّف الفرد العربي في مساحة يجهل اتّجاهاتها، معتبراً نفسه في حالة من التيه والضياع، وقد توصَّل إلى أنّ التنظير يختلف عن التطبيق، وأنّ الشعارات كافّة التي كانت تُرفَع، هي مجرّد نظريات فارغة المضمون.
أمام هذه المحطّات المُشبعة بإشكاليات سلوك المثقّف، نتوقّف عند “التباعد الثقافي” بين مشرق الوطن العربي ومغربه، وكأنّه معادلة انفصال مُبهمة العناصر، فهل يتحمّل المثقّف مسؤولية ذلك؟
من الأخطاء الكبرى التي يقع فيها مثقّفنا، استمرارية البحث عن حلول تثاقفية تُقارِب بين المجتمع العربي والمجتمعات الأخرى، متجاهلاً نصف ذاته المختطَفة المتشظّية بين المشرق والمغرب، فبدلاً من هذا البحث السرابي العقيم والهروب من أمام واقعه، وجب عليه إيجاد استمرارية تقاربية للذات، لكي يفهمنا الآخر.
بالتأكيد إنّ هذا النّهج الثقافي يزيد من هوّة التباعد والتنافر تحت مسمّيات الدّولة القُطرية والأصل التكويني لها، مكوِّناً معادلة ثقافية وهميّة مبتعدة عن مفهوم التقارب.
ثمّة سؤال يرتفع في ذهن الفرد العربي، ألَم تضطلع القضية الفلسطينية بدورٍ فعّال على مستوى رَدم الهوّة الثقافية بين مشرق الوطن العربي ومغربه؟
نعم، اضطلعَت القضية الفلسطينية، وعلى نحو كبير، بهذا الدَّور القومي، غير أنّها هي الأخرى وقَعت في الهوّة ذاتها، جرّاء الانفصال المؤلم بين الضفّة الغربية وقطاع غزّة. فالتخوّفات تتّجه نحو بزوغ ثقافة وهميّة تفصل بينهما في حال استمرّ الانفصال، ليتبيَّن أنّ النُّخب الثقافية العربية تقف على محكّ التنافر القُطري، غير قادرة على رَسْم طريق التكامل الثقافي، وها هي الهوّة تزداد عمقاً وامتداداً نحو تَجزئة المُجزَّأ وتفتيت المُفتَّت.
مفهوم “المؤامرة” وقراءة التاريخ
أطروحات كثيرة يقف أمامها المثقّف العربي، ويرتضي العوام بدور المشاهد، والأكثر إيلاماً اصطناع مفهوم “المؤامرة”، التي تطفو على السطح بين حين وآخر، في دور يتضمّن تبريرات جديدة تخرج، إمّا من دوائر النظام أو المعارضة، كلٌّ يتّهم الآخر.
الأدهى والأمرّ من ذلك، أنّ هذا المفهوم يتبوّأ باكورة أفكار النُّخب الثقافية، في إشارة إلى أنّ البلاد العربية مُستهدَفة من الآخر، زمانياً ومكانياً، مع العلم أنّ تلك النُّخبة تعلم يقيناً أنّ الأحداث التاريخية العربية زاخرة بالصراعات، التي ما زالت تتكرّر بصورة طبق الأصل في تاريخنا الحديث – بغضّ النّظر عن مرحلة كان العرب يتبؤون فيها عالمياً الهَرَم السياسي والحضاري.
لم يستطع المثقّف أن يوصل إلى الفرد العربي رسالةً واضحة عن استمرار التأزّم السياسي العربي، وتغاضت النُّخب الثقافية عن حقيقة هذا التأزّم، وتجاهلت أنّ الفرد العربي غُيّب عن خوض الحراك السياسي، بسبب الحُكم التقليدي، والقرارات الإقصائية، وغياب التنشئة والثقافة السياسية، ليتبلْوَر في ذلك مفهوم سياسي مبنيّ على تداول الدّولة وليس السلطة.
يتّضح أنّ “مثقّف العصر الحديث” هو صورة طبق الأصل عن “مثقّف العصر القديم”، يمارس الدَّور ذاته، ويتحدّث ليل نهار عن مفهوم المؤامرة، متجاهلاً أنّ الساحة العربية مُثقلة بكثيرٍ من المعضلات والإشكاليات الداخلية، والجماعات التي تبتغي الاستيلاء على السلطة.
دخولاً إلى عالم الحزبية والانتماء الإيديولوجي، فمعظم مَن يتبوّأ رأس الهرم الحزبي العربي هُم من المثقّفين، ويشكّلون صورة طبق الأصل عن الحاكم السياسي العربي، من خلال تمسّكهم بكرسيّ الحزب، حتّى أنّ النُّخب الثقافية داخل الحزب تُدافِع عن مبادئ حزبها ضمن دائرة “التحيّز التعصّبي”، التي لا يُفَسَّر سياقها إلّا من خلال اتّهام الآخرين بالمؤامرة وغيبيّات البروباغندا. فالحزبية بتسمياتها كافّة، تتبنّى مبدأ “النّظام الأبوي” الذي تسير عليه العشائرية والقبلية.
الحديقة الثقافية وصِفريّة التفريغ الإلكتروني
تعيش بلداننا عصر النصّ المفتوح، الضارب في كلّ مفاصل الحديقة الثقافية، وما مواقع التواصل الاجتماعي إلّا مثال على ذلك، حيث انحنى المجتمع إلى صفرية التفريغ الإلكتروني، وكأنّ كلّ فرد فيه يمتلك دولة إلكترونية خاصّة به، يفرغ شحناته “التصحيحية” في فضاء عالم افتراضي، كمَن يخضّ الماء ليصنَع لبناً، والأكثر عرضة هي النُّخب الثقافية، التي ارتضت بالشكليّات الإلكترونية بعيداً عن الواقع اليومي، وقبلت بالشعارات الطنّانة الرنّانة والصُّور الثقافية المُشبعة والمُغلَّفة باتّجاهات كشفت الوجه الحقيقي عن طبقة ارتَوت من ماء كنّا نشربه جميعاً، فخرجت صورة طبق الأصل عن تصرّفاتنا المجتمعية، التي تتّجه نحو انحدار المجالات الحياتية، فالواقع العربي يحتاج إلى شعارات تتناسب مع واقعه، وليس ثوباً فضفاضاً تتلاعب به الرياح الإلكترونية.
على تلك الطبقة ضبط تصرّفاتها، وطرْح قضايا تُرشِد المجتمع نحو الحقيقة، وليس إشباعها بشحنات إلكترونية منتهية الصلاحية، لأنّ الشبكة العنكبوتية بتوجّهاتها واستمالتها، تشكّل نقطة مُهمّة يجب استغلالها بطريقة خلّاقة بعيدة عن النَّهج الخطابي الفضفاض.
يتّضح أنّ المنطقة العربية تفتقد نكهةً ثقافيّةً خاصّةً تكسب الفرد ثقافة سياسية واضحة، فالواقع العربي أكبر من كلمة مثقّف، وأكبر من عبارة: “إنّ انهيار الحزب أو القبيلة أو الطائفة أو السُّلطة يعني انهيار الدَّولة والتغنّي على جراحها”.
زبدة القول، حال المثقّف العربي في وضعٍ لا يُحسد عليه؛ إنّه تماماً كـ”الواقف” على صفيحٍ ساخن، تتلاعب به رقصات الموت وضحكات الخوف، لا يستطيع المواءَمة بين الماضي والحاضر والمستقبل، ويعتمد المثالية أكثر من الواقعية، فهو إمّا مثقّف سلطة، أو حزب، أو قبيلة، أو طائفة، أو “مثقّف مرحلة”، وإمّا “تابع” يضرب حجر النَّرد إقليمياً ودولياً، أو مثقّف “شعبوي” يُختزل بمرور الزمن، أو “خجول” يترنّح بين الأنا والآخر، أو و “مثقّف كلمة” ابتَعَد عن الواجهة… فهل يستحقّ المثقّف العربي لقب “النُّخبة”؟ أم إنّ المستقبل سيحمل من ضمن طيّاته مفاجآت تَقْلب الطاولة..؟
* كاتب من فلسطين
رابط قصير:
https://madar.news/?p=20389