بين المدير والقائد: حين تتحول المؤسسة العامة إلى مزرعة خاصة .. ياسر ابو بكر
مدار نيوز \
كلما ازداد عدد من يتصرفون في مواقع المسؤولية بهذا المنطق المتعالي، ازداد اتساع الفجوة بين الدولة والمجتمع. إنّ الخطر الحقيقي لا يأتي فقط من الفساد المالي، بل من الفساد السلوكي والإداري الذي يفرغ الوظيفة العامة من معناها، ويحوّل الإدارة إلى سلطة، والسلطة إلى تسلط. يصبح المدير هو الدولة، ويصبح المكتب هو حدود الوطن، ويصبح الولاء له لا للوطن الذي عيّنه.
المدير الذي يرى نفسه صاحب المؤسسة هو في الحقيقة عدوها الأول، لأنه يقتل فيها روح العمل الجماعي، ويزرع الخوف بدل الاحترام. يعامل موظفيه كأدوات تنفيذية لا كشركاء في المهمة، ويتعامل مع المواطن كخصمٍ لا كمستفيد من الخدمة. يوزّع التعليمات كما يوزّع التوبيخ، ويظنّ أن ارتفاع صوته دليل هيبته. لكن الهيبة الحقيقية لا تُستمد من المنصب، بل من العدالة، ومن القدرة على القيادة بكرامة وإنصاف.
الفرق بين المدير والقائد ليس في الموقع بل في العقل والروح. المدير يحكم من وراء المكتب، أما القائد فيقود من الميدان. المدير يعتقد أن سلطته تمنحه الحق في كل شيء، بينما القائد يدرك أن المسؤولية تقيده قبل أن تمنحه الامتياز. المدير يطلب الطاعة، أما القائد فيكسب الاحترام. المدير يعيش على الخوف الذي يزرعه في الآخرين، والقائد يعيش على الثقة التي يبنيها معهم. المدير يطارد الأخطاء ليعاقب، والقائد يبحث عنها ليُصلح. المدير يرى الكرسي غاية، أما القائد فيراه وسيلة لخدمة الناس.
القيادة الحقيقية في الدولة ليست إدارة ملفاتٍ ولا توقيع أوامر، بل فعل وعيٍ أخلاقي وإنساني. القائد يرى في موظفيه رفاقًا لا أدوات، وفي المواطن صاحب حق لا متسولًا على باب الإدارة. يعرف أن المنصب مؤقت، وأن الكرسي زائل، وأن ما يبقى هو الأثر الطيب الذي يتركه في وجدان الناس. فالمواطن لا يذكر كم أمرًا أصدر المدير، بل كم مرة شعر أن الدولة احترمته من خلاله.
ما نحتاجه اليوم ليس مزيدًا من المديرين المهووسين بالسلطة، بل قادةً مؤمنين أن الكرامة هي أساس العمل العام. نحتاج إلى من يدخل مكتبه فينشر الاحترام بدل الخوف، ويجعل من كل موظف شريكًا في الخدمة لا رقماً في النظام. نحتاج إلى من يرى في كل مراجعٍ وجه الوطن لا ورقة معاملة.
لقد آن الأوان أن نفهم أن مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية ليست مزارع خاصة لأحد، ولا جوائز ترضية للولاءات، بل بيوت الأمة. من يجلس على كرسيها يجب أن يكون أول الخادمين لا آخر السادة، وأول الحاضرين لا أول المتغيبين. لأن الدولة لا تبنى بالأوامر ولا بالبيروقراطية، بل تبنى بالعدل، بالإنصاف، وبإرادة القائد الذي يفهم أن السلطة تكليفٌ ثقيل لا تشريفٌ عابر.
القائد الحقيقي هو الذي يترك خلفه مؤسسته أقوى مما استلمها، وموظفيه أكثر كرامة مما وجدهم، ومواطنيه أكثر ثقة بالدولة مما كانوا. أما المدير الذي يتوهم الملكية، فسينتهي كما انتهى كل متسلط: منسيًا، تافه الأثر، مطويًا في سجل الوظيفة، لأن التاريخ لا يخلّد المناصب، بل من احترم الناس وهو يجلس عليها.
رابط قصير:
https://madar.news/?p=347335



