عربٌ يكتبون بالإنجليزية: حول ارتباط اللغة بالثقافة والهوية والأدب
بقلم هاني البرغوثي:
بعد مرور قرن أو أكثر على ما يعد النهضة العربية الحديثة الأولى، التي أعلت شأن اللغة والهوية العربيتين أمام الدولة العثمانية ولغتها الرسمية، التركية، يجد المشرق العربي نفسه في مواجهة لغوية أخرى، مع الإنجليزية هذه المرة، يطرح فيها الكتاب والقراء أسئلة ارتباط اللغة بالهوية كما فعل أجدادهم من قبلهم.
رغم انتشار القناعة بضرورة المحافظة على اللغة العربيّة كنوع من التمسك بالإرث التاريخي والثقافي، فإن العديد من الكتّاب العرب يروون قصصهم باللغة الإنجليزيّة. هؤلاء الكتّاب يوظّفون لغة المستعمر السابق لسرد قصصٍ عربيّة عن شخصيّات عربيّة في مدن عربيّة.
ومن يعتبرون ذلك تواطؤًا غير مباشر مع المستعمر لا يألون جهدًا لنقد أصالة هذه الأعمال. بوسع القارئ أن يفهم الاعتراضات على كتابة الأدب العربي بالإنجليزية، باعتبارها لغة المستعمر المرتبطة بطبقية تحكم انتشارها، وباعتبار استخدامها توجيهًا للأدب لجمهور غير عربي بالدرجة الأولى.
لكن عند طرح أسئلة ارتباط اللغة بالهويّة الثقافيّة وشرعية الأدب الذي يكتبه العرب بالإنجليزيّة، فالأجوبة قد تبين جانبًا آخر للقضية. هل يستطيع الكاتب أن يعبّر عن سياقه الثقافيّ دون استخدام اللغة المرتبطة بذلك السياق، أم أن هذا الارتباط جذري لدرجة استحالة فصل أحدهما عن الآخر؟ لدراسة العوامل المؤثرة في اختيار اللغة التي يكتب الكاتب بها، وللإجابة عن السؤال المطروح، قابلتُ كتّابًا عرب نُشرت كتاباتهم بالإنجليزيّة.
من بين الكتّاب الأربعة الذين قابلتهم، رأى ثلاثة أن اختيارهم للإنجليزيّة كان جزءًا عضويًّا من عمليّة الكتابة ولم يكن قرارًا واعيًا، لكن مبرّراتهم اختلفت.
الصحفية الأردنية رنا الحسيني، التي تكتب لجريدة «الجوردان تايمز» هي الوحيدة التي لم توافق بقية الكتّاب، إذ أنها اتّخذت قرار كتابة «الجريمة باسم الشرف» لعدّة أسباب، أهمها رغبتها في تسليط الضوء على ما يسمى بجرائم «الشرف» في الأردن وعلى الحملات المعارضة لها، في ظل أسئلة العديد من الأجانب التي وُجّهت لها عن هذه القضايا في الأردن.
تقول الحسيني أن موضوع جرائم الشرف «استخدم للتهجم على العرب والمسلمين» ولتبرير حربي العراق وأفغانستان بحجة تحرير المرأة العربية والمسلمة. لذا، شعرت الحسيني بضرورة كتابة «كتاب متوازن يحكي الحقيقة» يستطيع مقارعة الرواية الغربية حول هذه الجرائم.
بالإضافة إلى ذلك، عبرت الحسيني عن أن يستجيب العرب بحماس أعلى لعمل كتب بالإنجليزيّة عن هذا الموضوع، نظرًا لما رأته من تجاهل الجمهور الأردني للموضوع رغم توفّر المواد المكتوبة بالعربيّة عنه.
أما بالنسبة للكاتبة الفلسطينية البريطانية غادة الكرمي، فقد كانت كتابة مذكراتها في «البحث عن فاطمة» و «عودة: مذكرات فلسطينيّة» باللغة الإنجليزيّة شيئًا محتّمًا، وذلك بسبب اضطرار عائلتها الانتقال إلى بريطانيا عام ١٩٤٩ بعد الاحتلال الصهيوني لفلسطين عام 1948 وما نتج عنه من ضعف لغتها العربيّة.
مع ذلك، فإن الكرمي تضيف بأنّها كانت ستختار أن تكتب مذكّراتها بالإنجليزيّة لو كان خيار الكتابة بالعربيّة متاحًا لها، بسبب اعتقادها بأن الجمهور الأهم الذي يحتاج أن يقرأ قصّتها وقصّة معضلة الفلسطينيين هو الجمهور الأجنبي الذي لم يعش الاحتلال. الكاتبة الأردنية البريطانيّة فادية الفقير انتقلت إلى بريطانيا للدراسة بمنحة من المجلس الثقافي البريطاني في الأردن، لذلك فإن كتابة روايتها الأولى «نيسانيت» بالإنجليزيّة كان شيئًا بديهيًّا بسبب محيطها ودراستها، على حد قولها.
عند عودة الفقير إلى الأردن في ثمانينات القرن الماضي، «كان القمع عملة متداولة، سواء على صعيد سياسيّ أو شخصيّ». قبل اكتشافها ذلك، كانت نيّة الفقير من العودة أن تكتب بالعربيّة، لكن محاولتها تلك باءت بالفشل.
«لم أقدر أن أتنفّس، فكيف لي أن أكتب؟»، تقول الفقير مشيرة للضغوط . بعد ذلك، عادت إلى بريطانيا لتحصل على الدكتوراه في الكتابة الإبداعيّة. رأت الفقير أن معاملة المجتمع العربي للغته حرّمت العديد من المواضيع الحسّاسة ومنعت الكتابة عنها. نتيجة ذلك، لجأت الفقير إلى لغة أجنبيّة للكتابة عن هذه المواضيع.
مع ذلك، اكتشفت بعد الكتابة بالإنجليزيّة أن تلك اللغة «لها قيودها الخاصة بها، وكل لغة تأتي مع رواسب ثقافيّة تجرّ معها محظوراتها وآدابها الخاصّة». أما سليم حدّاد (ذي الأب الفلسطيني اللبناني والأم العراقيّة الألمانيّة) فكان تبريره أكثر شاعريّة؛ فحين سألته عن روايته، قال «جاءت لي قصّة «جوابا» باللغة الإنجليزيّة، لذلك كتبتها بالإنجليزيّة»، مضيفًا أنه لا يعتقد أن اللغة التي يستخدمها الشخص للتواصل هي بالضرورة خياره الأول للكتابة. يكمل حدّاد كلامه موضّحًا علاقته مع اللغتين العربيّة والإنجليزيّة بسبب خلفية أمّه، واعتقاده أن الرقابة التي خضعت لها الكتب العربيّة التي حاولت التطرق لأسئلة حسّاسة جعلت الكتب الإنجليزيّة التي أحاطته في صغره (وإلى الآن) منارة متحرّرة بالمقارنة بسابقاتها، ذلك بسبب افتقارها لرهاب «استكشاف مواضيع محظورة و طرح أسئلة صعبة».
لم ينفِ حدّاد وجود مثل هذه الكتب بالعربيّة، لكنه يعتقد أن نظيرها الإنجليزيّ متوفّر بشكل أوسع، و«من الوارد أن يكون هذا بسبب ازدياد حجم الجمهور في العالم العربيّ عند الكتابة بالعربيّة» وتزايد الآراء المعارضة نتيجة ذلك. في أعمال حدّاد والفقير والحسيني، يجد القارئ أن المواضيع المطروحة غير مألوفة على صعيد واسع في العالم العربي رغم كونها تروي قصص ووقائع عربيّة بالكامل، وتعرض أبعادًا من الحياة العربيّة.
عند مقابلتهم، ذكر حدّاد والفقير محدوديّة اللغة العربيّة نتيجة النطاق المجتمعي الذي تعمل فيه، بينما أقرّت الحسيني أن المصطلحات المرتبطة بجرائم الشرف متوفّرة لكنها لم تكن متداولة عندما كتبت «الجريمة باسم الشرف» بسبب الحظر الاجتماعي حول الموضوع. توضّح الفقير أن محدوديّات اللغة لا تعني عدم إمكانيّة تطويرها، لكن ذلك يتطلّب نهضة نوعية، تشتمل على جهد نسوي لفهم الأبويّة والتحيز ضد للنساء في اللغة وإزالة الستارة عنهما من أجل السعي لتغييرها. يوافقها حدّاد على ذلك، مؤكّدًا على سيولة اللّغة وأهميّة تطويرها «كي تستمر هذه اللغة ونحافظ على أهميتها الاجتماعية».
من ناحية الترجمة، عبّر جميع الكتّاب المذكورون عن رغبتهم في توفّر أعمالهم بالعربيّة بغية توسيع وصولها للجمهور العربيّ، لكن الكرمي والفقير أبدتا تحفّظاتهما عن فقدان النسخ المترجمة لرونق الحبكة وبعض أبعاد القضايا المطروحة المختلفة.
تنبع تحفّظات الكرمي من وجود «فكاهة بريطانيّة بحتة، قد تفقد رونقها لو تُرجِمت»، لكن الفقير تخشى أن محدوديّات اللغة قد تؤثّر على رسائل رواياتها النسويّة.
من الجدير بالذكر هو أنّ كتاب الحسيني وبعض كتابات الفقير تُرجمت للعربيّة بالفعل، لكن الكاتبتين تشكّكان في فاعليّة الترجمة.
اختلفت الحبكات وتنوّعت القضايا في أعمال الكتّاب الأربعة؛ تطرّقوا للنسويّة وجرائم الشرف والحياة المثليّة والقضيّة الفلسطينيّة؛ واستخدموا لغة أجنبيّة ليسلّطوا الضوء في كل قضيّة على بعدها العربيّ، لينقلوا مشاعرهن ومشاعرهم ومشاعر أبناء مجتمعاتهم للقارئ، ويولّدوا المشاعر ذاتها لديه.
يبقى السؤال عمّا إذا نجحت هذه النصوص في إنجاز ما كان يصبو إليه مؤلفوها ومؤلفاتها قائمًا، لكن الإجابة عليه محكومة بنقل النقاش من شرعية اختيار اللغة الأجنبية أو عدمه إلى أثر هذا الاختيار ومدى مناسبته. * تنويه: تم تصحيح الاقتباس عن الصحفية رنا الحسيني بعد النشر لتوضيح سبب اختيارها اللغة الإنجليزية بشكل أدق.
رابط قصير:
https://madar.news/?p=604