عماد دوّاس: “القنّاص” صديق البيئة
مدار نيوز، نشر بـ 2016/08/22 الساعة 2:46 مساءً
حكاية المهندس عماد بشير دواس..شغف بتوثيق طيور فلسطين وزواحفها البرية وووجها الجميل.
يتسلح الشاب المبتسم غالبًا بعدسته، ويسابق الفجر دائمًا لنصب “كمائن” خضراء للأهداف الجديدة من الطيور والحيوانات الحذرة، ويحمل خيمة متنقلة للاحتماء من يقظة العناصر التي سيلتقطها على طبيعتها، وبمواقف نادرة وغير معهودة.
كمائن خضراء
يروي وهو يختفي خلف كمين من الكرتون المقوى بجوار شجرة زيتونة معمرة: عليك أن لا تذهب إلى الطيور والحيوانات والزواحف، بل تجعلها تأتي إليك لتجيد التقاط صورها، وحينها فقط ستشعر بالمتعة، وكلما اقتربت أكثر من صيدك الثمين ستقدم صورة نابضة بالحياة، وتجعل من يشاهد يحبس أنفاسه.
ويمضي عماد الأربعيني الذي يحمل لقب الدكتوراه في الهندسة المدنية ساعات طويلة لرصد مشهد واحد، ولا يضغط على زناد عدسته إلا حين يتيقن أن الهدف قد تحقق كما هو معد له، ويحزن كثيرًا إن عاد بخفي حُنين.
يسرد دواس الذي أبصر النور في طوباس ربيع عام 1976: بعد عودتي من الدراسة في الولايات المتحدة عام 2012 لم أكن أملك آلة تصوير، وشاهدت سرب حمام يهم بالنزول على قبة مسجد في جينصافوط بمحافظة قلقيلية، فأسرعت لهاتفي النقال ووثقت المشهد بعفوية، ومررته على حسابي في “فيس بوك” ليحصد الكثير من علامات الإعجاب، ويحظى بإشادة مصورين.
وبحكم طفولة عماد الذي درس الماجستير في إيطاليا وسبقه بشهادة الهندسة المدنية من جامعة النجاح، فقد ظل شديد التأثر ببيئة طوباس الخلابة، إذ كان يضع خططاً بريئة مع أبناء عمه أشرف (السريع) ، ووسام للإمساك بقطعان الغزلان المنتشرة في الأغوار براحة اليد، وبعدها صار يحاكم التمدد العمراني، وينتقد الصيد الجائر الذي أتلف الحياة البرية والتهم التنوع الحيوي.
يبتسم: كنا نظن أننا نستطيع “اعتقال” الغزال بسهولة وذبحه وشويه، عبر خطط تنسجها أحلامنا، ونتمنى اليوم لو أن يعود الزمن الجميل لنوثق هذا الحيوان الجميل بالصورة، ونتمتع برشاقته رفقة بأسراب الحجل التي صارت مطمعًا للصيادين والمتاجرين.
مشاهد بارعة
ويتفاخر دواس كثيرًا بالصورة الحرفية الأولى التي التقطها لثعلب أحمر ( حصيني) من مسافة الصفر، فيومها طار من الفرح، ونجح كمينه المحكم من قنص مشهد قريب للحيوان الذي يحاط بشائعات خاطئة عن عدوانيته وشراسته.
يقول: بدأت بطريقتي الخفية في التصوير، وتكلفني وقتًا طويلًا كل يوم، فعليّ انتظار اللحظة الحاسمة، وربما أمضي ثلاث ساعات وأكثر من دون الحصول على الهدف، ولا أنسى كيف أشعل متنزهون النار في حشائش كنت أخفي بينها “كمينًا” للتصوير، أمضيت وقتها في صنعه.
ويكاد دواس لا ينسى الصورة التي لا تتكرر، حين كان في جولة في أحراش طوباس، ووقتها وقف طائر الباز على خشبة نصبها، والتقط صورة لصيده الثمين وهو يتلاعب بجناحيه. فيما تواجهه عقبات كثيرة نابعة من عدم فهم غالبية الناس لهوايته، فيظنون أنه يلتقط صوراً للمنازل وسكانها ويعتدي على خصوصيتهم، كما يحاط عمله بمخاطر في مناطق الأغوار التي صادرها الاحتلال وحولها لحقول رماية وتدريب، ويطلب منه بعض الأشخاص التقاط صورة له بكاميراته ذات العدسة بعيدة المدى!
يتابع: كنت أراقب الغزلان في جبال طوباس، برفقة ابن عمي، وعندما شاهدت قطيعاً منها، وأنا داخل السيارة هممت لالتقاط صورها، فشاهدت دورية للاحتلال استجوبتنا، فأخفيت الكاميرا، وأخبرتهم بأننا نستمتع بمشاهدة الغزلان التي انقرضت بفعل الصيد الجائر.
وجه آخر
يتنقل عماد في محافظات الوطن كوادي قانا ومرج ابن عامر وأريحا وبرية القدس، لكنه يلتصق كثيراً بمسرح طفولته في المكواك، والخلايل، ووادي حمد، وقشدة، والمخبة، ولحف جادر، ويمعن كثيرًا في مراقبة الحجل وأبو زريق، وعصفور الشمس الفلسطيني، والعويسق، وعروسة التركمان وغيرها، ويتحسر كلما يشاهد الزحف الإسمنتي والصيد الجائر الذي يلتف حول عنق البيئة والطبيعة، واقتنص طيورًا نادرة الحضور في أحراش طوباس ووادي الخشنة في الأغوار الشمالية.
في رصيد دواس مئات الصور لطيور وزواحف وثقها بزوايا غير معهودة، فهنا سحلية تضع يدها على صديقة مقابلة في مشهد “غرامي”، وفي زاوية أخرى طائر المنية ( البلبل الهندي) يتفاخر بمشيته وغروره، ويحلق العويسق في كبد السماء كمن يستعرض عضلاته، أما الحجل فيلهو فوق كومة قش، وتنسج عشرات الصور الأخرى حكايات مغايرة، تضاف كلها استعدادًا لتشق طريقها إلى معرض شخصي يعد عماد العدة له.
يقول: صرت أصطحب أطفالي: بشير (10 سنوات) وياسمين (8) وبيسان (5) وأصبحوا يقلدون موهبتي، ويراقبون أطراف الشارع خلال المسير بانتظار صيد، ويعرفون أسماء الطيور والزواحف، ويخططون لجمع “تحويشتهم” وشراء آلة تصوير مهنية تشبه عدستي. وخلال الربيع أمضى النهار بطولة في البرية، أخذ زوادتي وكاميراتي وأضع خيمتي المتنقلة التي تشبه الطبيعة بانتظار زائر جديد أضيفه لمجموعاتي.
نقد الاسمنت
وينتقد عماد التوسع العمراني كثيراً، فقد دمر البيئة الفلسطينية ومس بتوازنها، فيما تطوّع لتدريس أول مساق في التخطيط البيئي لطلبة الهندسة في جامعة النجاح الوطنية، وصار يدخل عبر الصورة حب البيئة إلى قلوب طلبته، وتضاعف عدد المسجلين في المساق من 12 إلى 20 أصبحوا يتفاعلون مع الطبيعة، ويتألمون لتخريبها، ويقدمون بدائل للحفاظ عليها بعين هندسية خضراء.
يضيف: إذا أردنا أن نقنع الآخرين بدمار بيئتنا فعلينا أن نقدم لهم مشاهد متناقضة تبرز جمال بيئتنا وتنوعنا الحيوي الغني من جهة، وتعرّف بالتخريب والعبث الذي يطال المشهد الطبيعي ويحوله بجرة قلم إلى ركام من الخرسانة والحديد.
بدأ دواس بهواياته بعد عودته من الولايات المتحدة، التي أمضى فيها 6 سنوات، وكان يلاحق بمنظار عناصر البيئة في سياتيل الساحلية بولاية واشنطن، لكنه طوّر شغفه والتحق بدورات تصوير احترافية، وانفق الكثير من المال والوقت والجهد على “عشقه”، لينحت شعاره الخاص: “التصوير متعة لا تنتهي، تعادل جمال السفر والتنقل في أجمل بقاع الأرض.
يسرد: كنت أطمع الغزلان المنتشرة في على الحدود الأمريكية – الكندية بيدي، دون أن تهرب أو يلاحقها صيادون، وتمتعت بمراقبة مالك الحزين خلال معركته مع سمكة، واستمعت بجمال طيور الطنان، والروبن الأمريكي، ونوارس البحر، وغيرها.
يضيف دواس: تدعمني زوجتي أماني مهندسة البناء، ولها نظرة هندسية في تقييم ما أصطاده من مشاهد، وتساعدني في اختيار صوري التي أنشرها على صفحتي الإلكترونية الرسمية، أو التي أخوض فيها منافسات محلية تتوجت بثلاث جوائز خلال سنتين.
والمهندسة أماني “جندي مجهول” فهي تتحمل وتتفهم غياب شريكها الطويل في ملاحقة لقطاته، وتشجعه على تطوير احترافية وتنظيم معارض شخصية، وتوسيع آفاق مشاركاته نحو العالمية.
حياة ملونة
بدوره، أشار منسق وزارة الإعلام في طوباس والأغوار الشمالية عبد الباسط خلف إن سلسلة “أصوات” التي أنهت عامها الربع قدمت سلسلة قصص عالجت هموم المواطنين وبخاصة عطش الأغوار والطفولة المصادرة فيها، والمعاناة جراء انتشار معسكرات التدريب وحقول الألغام، ورصدت إبداعات علمية وأدبية وتراثية، وقدمت حكايات معمرين وقدامى أصحاب المهن ومبادرات، وأعادت إنتاج سيرة أول شهيدة، والأسيرة الأولى، وحادثة أول قصف استهدف عائلات كانت تفر من طوباس بشاحنة إلى الأردن خلال نكسة 1967، وغيرها.
وأضاف: خصصت الوزارة حيزًا من “أصواتها” لتجسيد البيئة بوجهها الجميل وتنوعها الحيوي، ولاحقت مبادرات طلابية لحل مشكلة مياه وادي الباذان الملوثة، وسلطت الضوء على أول مدرسة خضراء في فلسطين تحتضنها بلدة عقابا، وتميز “بنات طوباس الثانوية” بحدائقها وأزهارها، كما واكبت مواسم البطيخ واللوز والسمسم التي تميز المحافظة.
الحلقة (48) من سلسلة “أصوات من طوباس” التي تنفذها وزارة الإعلام
رابط قصير:
https://madar.news/?p=4258