في ذكرى محمود درويش…عادل الأسطة

“ولكل واحد عاداته. لقد راقبت نفسي مراراً دون أن أعثر على قانون عام للكتابة. ولكني لاحظت أنني لا أكتب إلا تحت تأثير التوتر العالي كما يقولون. لا أعني بهذا التوتر ارتفاع شحنات الحساسية إلى مستوى يقارب الانفجار، كما هو معروف، بل أعني أنني لا أكتب إلا في الزحام. وإذا انقطعت بنفسي شهوراً من العزلة فلا أفعل ذلك لأجد الشعر في العزلة، بل لأفرغ نفسي مما امتلأت به نفسي، ولأحصد ما زرعت”. (شقاء يوم الثلاثاء).
ولست متأكداً إن كانت هذه الطريقة في الكتابة كانت طريقته منذ شبابه وبداياته، ولعله هو نفسه لم يكن متأكداً من الأمر، فمراقبته لنفسه لم تكن مستمرة. لقد راقب نفسه مراراً كما يكتب ودون أن يحدد أيضاً فترة زمنية.
في تتبع ما كان عليه الشاعر وما صار إليه ما يقول لنا: إنه كان يتغير. ومن قرأ قصيدته في رثاء راشد حسين “كان ما سوف يكون” إقرار بالتغير:
“-هل تغيرت؟
-تغيرت ولم تذهب حياتي سدى”
في السنوات الأخيرة كنت أكرر مقاطع محددة للشاعر أكثر من غيرها، كما لو أنها هي ما فعلت فعلها فيّ أو كما لو أنها تناسب حالتي الآن أكثر.
يفتتح محمود درويش ديوانه “أرى ما أريد” 1990، بمقطع دال عن صراع الإنسان مع الزمن. كان الشاعر يومها في الخمسين من عمره، ويبدو أنه أخذ يلتفت إلى الزمن وما يفعله فينا أكثر وأكثر.
يقول المقطع:
“وأنا أنظر خلفي في هذا الليل/ في أوراق الأشجار، وفي أوراق العمر/ وأحدق في ذاكرة الماء وذاكرة الرمل/ لا أبصر في هذا الليل/ إلا آخر هذا الليل/ دقات الساعة تقضم عمري ثانية ثانية/ وتقصر أيضاً عمر الليل/ لم يبق من الليل ومني شيء نتصارع فيه وعليه/ لكن الليل يعود إلى ليلته/ وأنا أسقط في حفرة هذا الظل”.
كما لو أنه قدر الفلسطيني أيضاً. من يتذكر حامد، بطل رواية كنفاني “ما تبقى لكم” 1966 وهو في صحراء النقب؟
في شبابه كتب محمود درويش “عاشق من فلسطين” 1966، وكان في الخامسة والعشرين من العمر. يومها كان زين الشباب وفارس الفرسان، بل وكان “محطم الأوثان”. ولم يكن الزمن بدأ ينتصر عليه. كان يعتقد أنه أقوى من الزمن وأقوى من خيول الروم: “خيول الروم، أعرفها/ وأعرف قبلها أني/ أنا زين الشباب، وفارس الفرسان”.
في”لاعب النرد” 2008، لم تكن الأنا كما كانت عليه في “عاشق من فلسطين” أو كما كانت عليه في “مديح الظل العالي” 1982، على الرغم من الخروج من بيروت إلى مناف جديدة.
في حصار بيروت، سرت إشاعة بأن الشاعر استشهد وكان من استشهد هو قريبه سمير درويش. هنا يسأل الشاعر قريبه الشهيد: “أتعرف من أنا حتى تموت نيابة عني؟”. الأنا فيها من الشعور بالعظمة ما فيها، تماماً كما هي في قصيدة “رحلة المتنبي إلى مصر” 1980. كما لو أنها أنا المتنبي. وفي “لاعب النرد” تقرأ شيئاً مختلفاً. نقرأ عن أنا متواضعة تشعر بأنها أمام الزمن ضعيفة، فالزمن أقوى وهو المنتصر:
“من أنا لأقول لكم/ ما أقول لكم؟…..أنا لاعب النرد/ أربح حيناً وأخسر حينا/ أنا مثلكم/ أو أقل قليلاً”.
الشعور بالقوة وعدم الخضوع لجبروت الزمن، ثم تراجع الشعور بالقوة ليحل محلها الشعور بالضعف وبأن الزمن أقوى فكرة لها حضورها في أشعار درويش، وهناك عوامل أسهمت في هذا: العامل الذاتي الشخصي والعامل القومي والعامل الأممي أيضاً.
في 60 ق20 كتب درويش: “سجل أنا عربي/ أنا لا أكره الناس/ ولا أسطو على أحد/ ولكني إذا ما جعت/ آكل لحم مغتصبي/ حذار..حذار/ من جوعي ومن غضبي”.
وحين خرجت المقاومة من بيروت وكان العالم العربي يتفرج ولا يفعل شيئاً، صرخ درويش صرخته: “يا وحدنا!”، وقال :”عرب وباعوا روحهم/ عرب وضاعوا”، واستحضر ما كتبه المتنبي عن عرب القرن الرابع الهجري.
ولا تنقص المرء شواهد أخرى تدعم رأيه في تبدلات في رؤية الشاعر الأشياء وموقفه منها.
في شبابه ويوم كان ماركسياً كتب: “من يشتري تاريخ أجدادي بيوم حرية؟
“وحين زار الأندلس وشاهد بقايا حضارة العرب هناك كتب: “سأعرف أني هلكت، وأني تركت هنا/ خير ما في: ماضي”.
في ذكرى رحيل الشاعر ما زالت أشعاره، وما زالت تساؤلاته تحضر في الذاكرة وتلح على القارئ. كما لو أن الشاعر ما زال يقيم بيننا. كما لو أن..
رابط قصير:
https://madar.news/?p=50645