مؤسسات القدس: حصار تمويلي وعجز السلطة والمنظمة.. بثينة حمدان
مجلة الدراسات الفلسطينية- تأخذك الأزقة داخل السور القديم من حي إلى آخر، تدفعك الأرضية المرصوفة إلى التساؤل دوماً: من أين يأتي المقدسيون بكل الحجارة التي يضربون بها جنود الاحتلال المُدَجّجين والمستوطنين المتطرفين دفاعاً عن المدينة وهويتها وتاريخها الفلسطيني العريق؟ هذا هو حال المدينة اليوم؛ دفاعٌ فردي بأدوات سماوية ربما، دفاعٌ سَطَع خلال الهبة الشعبية، مقرون بإجماع على الفشل المؤسساتي في المدينة الذي لطالما كان المظلة والمؤونة مع غياب السلطة الوطنية، وتستمر خيبة الأمل مع حضورها الغائب والمُغيّب!
تحظى القدس برعاية ملكين؛ الملك عبد الله بن الحسين منذ الوصاية الأردنية عام 67، وملك المغرب محمد السادس رئيس لجنة القدس، ورعاة آخرون من فلسطين والعالم، ومؤسسات مقدسية كثيرة لم تستطع أن تبدد سحابة الحزن التي تعلو سماء المدينة، وصار أقصى ممارسات الدفاع عن القدس الدعوة لشدّ الرحّال إلى المسجد الأقصى فقط. وفي السابق كانت المؤسسات الأهلية والنوادي والجمعيات والنقابات هي الرب الحامي للمكان، فحاربه الاحتلال مُغلِقاً العشرات ومن أبرزها مؤسسة بيت الشرق الممثل الرسمي للفلسطينيين في المدينة، كما أَخرج جدار الضم والفصل العنصري مؤسسات أخرى، وهناك من رحل “طوعا”. وهكذا أصبحت القدس؛ ملتقى الفن والثقافة والأدب والسياسة والأديان، مكاناً يحظر دخوله إلا لزيارة خاطفة للصلاة وربما لالتقاط صور تاريخية! مدينة تقطعت أوصالها إلى أحياء متفرقة وجماعات مفككة ومعزولة عن محيطها، غير مرتبطة بخصائص المدن الطبيعية.
المستوى الرسمي.. و”نقمة” النسيان
على الرغم من وجود دعم رسمي فلسطيني لمدينة القدس بكافة مكوناتها المؤسساتية والشعبية، إلا أن عدة علامات استفهام تطرح حول التشتت والتشتيت الواضح في إدارة ملف القدس. وتوصل الكثيرون ممن لهم علاقة بالملف إلى: وجود قرار رسمي فلسطيني غير معلن، بعدم الاهتمام بالملف! وفي هذا السياق يقول زكريا عودة منسق “الائتلاف الأهلي للدفاع عن حقوق المقدسيين”، بعد لقائه مع أعلى الهرم الرسمي الفلسطيني، إنه لمس هذه اللامبالاة بقضية القدس وأضاف: “لقد تُرِك أمر الدفاع عن المدينة للأفراد رغم بعض المساعدات والمبادرات، وهذا أدى أحياناً إلى حل مشكلات على حساب القضية العامة، مثل التنازل عن الهوية المقدسية مقابل الجنسية الإسرائيلية”!!
وينتقد أحد مهندسي أوسلو وخبير التفاوض أحمد قريع أبو العلاء عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ورئيس دائرة القدس منذ عام 2009 بالمنظمة واقع المؤسسات المقدسية قائلاً: “حين يتم وضع خمس مرجعيات للقدس للأسف، فكأن المسؤولية غير موجودة، وكأنه يقول من المسؤول؟ ثم من الذي يُسائِل؟ فالمرجعيات بلا متابعة أو مساءلة، والطاسة ضايعة، كل مرجعية تقول إنها المسؤولة وهذا خطأ”، وحين سُئل عن اللجنة العليا التي تضم كل هذه المرجعيات برئاسة الرئيس أجاب ساخراً: “هذه لجنة مرتاحة.. والأمور سائرة فيها!”.
ويؤكد أحمد الرويضي مسؤول وحدة القدس في ديوان الرئاسة حتى نيسان 2016 أكد قبل يوم واحد من تركه منصبه لمجلة “الدراسات الفلسطينية”: “أن الملف لم يتوقف، وهو غير مرتبط بوجودي كشخص”. واستدرك: “توقفت الوحدة سنة 2012 عند تأسيس وزارة القدس التي أصبحت الجهة التنفيذية فيما يتعلق بالمدينة”، ربما أراد الرويضي “الخائف” على منصبه الجديد سفيراً في منظمة المؤتمر الاسلامي أن يقوم بمهمة الدفاع، أو نفي انتهاء هذا الملف من مكتب الرئيس إدارياً وانتقال مهامه إلى جهة آخرى، لكن الحقائق تقول شيئاً آخر.
ركعتان وصورة!
يؤم المسجد الأقصى الملايين سنوياً من داخل وخارج فلسطين لآداء فريضة الصلاة، وبعضهم من يقدس حجته أو يطمح للاستفادة من فضل الصلاة في المسجد، وهناك مَن يبتغون التقاط صورة تاريخية، ثم يغادرون، تاركين المهمة لمواطني القدس المفككين والمغضوب عليهم اسرائيلياً، والدعوات تتركز على شد الرحال للمسجد وليس للمدينة كلها رغم هول ما تعانيه، لكن الواقع حسب الشيخ عمر الكسواني مدير المسجد الأقصى، فيقول إن المدافعين الدائمين عن الأقصى هم موظفي وزارة الأوقاف الأردنية وعددهم 800 بينهم 240 حارساً و20 حارسة عدا عن السدنة وعمال النظافة والأئمة والمؤذنّين، إضافة إلى المصلين الذين يصل عددهم إلى 4 آلاف في الأيام العادية، وإلى 70 ألفاً أيام الجُمَع، ويتراجع العدد جرّاء الإجراءات الإسرائيلية المشددة ليصل إلى 55 ألفاً، وهكذا تنتهي الصلاة ويُترك المكان عملاً بمقولة “للبيت رب يحميه”.
ويشير الشيخ الكسواني إلى أن دور المؤسسات الفلسطينية في الدفاع يقتصر على تنظيم المؤسسات التعليمية من مدارس القدس جولات في المسجد الأقصى وقبة الصخرة، بينما تفضل مدارس أخرى في الضفة والتي تنظم رحلات لطلبتها إلى أراضي الـ 48 اصطحاب الأطفال إلى حديقة الحيوانات.. وفي المقابل يهاجم المتطرفون الإسرائيليون باحات الأقصى فيقيمون صلواتهم التلمودية فيه يومياً، وتنظم جولات مدعومة من مؤسسات ومدارس وجامعات اسرائيلية ومراكز دينية يهودية لحماية الهيكل المزعوم.
توزيع “الكعكة”
ترحل المؤسسات عن القدس وتصاب أخرى بالضعف بسبب سياسة التمويل ويقول زياد الحموري مدير مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية إن أحد الأسباب يتعلق بكون كُبريات المؤسسات المانحة تعتمد سياسة غير معلنة تشجع على الرحيل في مقابل توفير التمويل. الأمر الذي ينفيه المحافظ الحسيني قائلاً: “قبل ثلاثة أعوام كان هناك دعم مشروط، لكن الاتحاد الأوروبي يعترف اليوم بالقدس الشرقية ويقدم الدعم في مناطق (ج) وللبدو المقيمين فوقها.” غير أن كل من زكريا عودة وكامل الباشا يُقِرا بوجود شروط للتمويل مرتبطة بالرحيل عن المدينة أو بإيجاد شريك إسرائيلي أو أردني، وأن البعض القليل توجه إلى الشريك الفلسطيني الذي يحمل جنسية إسرائيلية لحل هذه المشكلة.
ويكشف كامل الباشا الكاتب والمسرحي المقدسي ومدير مؤسسة “قدس آرت” أن التمويل الذي يصل إلى القدس من الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال، يستلزم توقيع محافظ ووزير القدس عدنان الحسيني”. ويضيف: “هذا أمر سيء، فموافقة قيادات فتحاوية هي العنصر المُقَرِّر لمنح الدعم، وأحياناً يجب أن يكون صوتك عالياً لتحصل على التوقيع … وهناك مبالغ تصرف على ندوات وسفريات لمسؤولين باسم القدس، كتكاليف مؤتمر عن القدس هنا أو تغطية مشاركة عضو مركزية فتح في ندوة بالقاهرة عن القدس، أو مشروع لإحدى المؤسسات الأهلية الممولة بقيمة مليون شيكل ينتج عنه عشر فرق دبكة، إنه لأمر مؤسف، في الوقت الذي يمكن فيه تخفيض النفقات باستخدام قاعة مسرح الحكواتي مجاناً، وهو المؤسسة الثقافية الوحيدة التي تبقى أبوابها مفتوحة للجميع وغير محددة بأوقات دوام”. ويفيد الباشا بأن مؤسسة ثقافية حصلت على دعم من السلطة الفلسطينية كي لا تغلق أبوابها بسبب تراكم الضرائب متسائلاً: “لماذا تغلق هذه المؤسسة الثقافية أبوابها في الخامسة مساءً؟”. ومن المعروف أن المدينة تموت بعد هذا الوقت، بسبب اجراءات الاحتلال والتقاعس الفلسطيني.
وحين توجهنا للنائب جهاد أبو زنيد رئيسة دائرة القدس في التشريعي، وجدنا أن درجة الشكوى لديها مساوية لجميع المقدسيين، وأقرّت أنه ليس لها أي تأثير في ميزانية القدس، لدعم اي مواطن مقدسي، وقالت: “من زمان ما سمعنا أنه تم دعم مؤسسات ومواطنين مقدسيين متضررين”.
وبينما تُخَصِّص سلطات الاحتلال أربعة مليارات شيكل للقدس سنويا، تبلغ الميزانية المخصصة للقدس فلسطينياً؛ 25 مليون شيكل سنوياً هي عبارة عن موازنة سنوية لوزارة القدس، وهي الأدنى بين الوزارات الأخرى، وخمسة ملايين لـ”اللجنة الوطنية العليا من أجل القدس” برئاسة الرئيس وعدد من المرجعيات المقدسية، بينما لا تملك محافظة القدس سوى موازنة تشغيلية، يضاف إلى هذا ما تقدمه الوزارات الأخرى من دعم للقدس في قطاعات مختلفة حسب تخصصها كما يؤكد المحافظ الحسيني، وهناك ايضاً 30 مليون دولار موازنة وكالة بيت المال التابعة للجنة القدس برعاية ملك المغرب، تصرف في الفترة ما بين 2014-2018.
التخطيط حبيس الأدْراج
وحسب المحافظ الحسيني والرويضي فقد أعددت خطة جرى عرضها إلى القمة العربية المنعقدة في مدينة سيرت الليبية سنة 2010، بقيمة 428 مليون دولار تُصرف على مدى ثلاثة أعوام، لم يصل منها سوى 37 مليون دولار، ويشير المحافظ إلى تراجع دعم المانحين إجمالاً للسلطة الأمر الذي أوصل العجز في ميزانية الحكومة 40%. وقال: “الحكومة لا تستطيع مساعدة القدس ولا غيرها”. فيما أكد الرويضي أن قيمة العجز في ملف القدس تصل إلى 60%.
هذا ويطرح عبد القادر الحسيني رئيس مجلس إدارة مؤسسة فيصل الحسيني تساؤلات عن التمويل فقال: “أين يذهب هذا التمويل؟ ثم إن التمويل العربي مليء بالتحفظات، وخصوصاً فيما يتعلق بمشاريع البنية التحتية التي تستلزم رُخصاً إسرائيلية”. وينفي الرويضي، بينما يعترف به المحافظ الحسيني، ويبدو أن هذا التضارب بين الرَجُلين يشبه وصف النائب أبو زنيد لمشهد الدعم في القدس والتي تقول: “كلٌّ يُغَني على ليلاه”.
وكان بيت الشرق أعد أول خطة قطاعية للقدس عام 2002 قد جرى تحديثها 2006، ثم أصدرتها وحدة القدس في ديوان الرئاسة للأعوام 2011-2013، وبعد ذلك توقف العمل على تحديثها. وتتناول الخطة تشخيصاً لواقع المدينة وبرامج وخطة تنفيذية، وكل ما يتعلق بالتمويل، وآخرى تتعلق بتعزيز الهوية ورفع الوعي الثقافي في المدينة، وآلية للمتابعة والتقويم لما جاء فيها ولتحديثها حسب الحقائق على الأرض. ويبرر الرويضي عدم تحديثها بالقول: “التشخيص واحد والاحتلال موجود والإجراءات ضد المقدسيين لم تتغير”.
وهنا نتسائل عن أسباب هذا التوقف: فهل يعني توقف التخطيط ايقاف التنفيذ أيضاً؟ وهل هو استخفاف بملف القدس أو بالجهود التي أعدت الخطة؟
يقول زكريا عودة: “مطلوب خطط مدعومة بميزانيات قابلة للتطبيق”. مضيفاً: “عندما اجتمعنا مع المسؤولين لاحظنا عدم وجود رغبة أو استعداد للدعم”. وعن التغييرات الهائلة التي تحدث في المدينة -والتي نفاها الرويضي- أكد أنه خلال الأشهر الستة الأولى من هبة القدس، أغلقت قوات الاحتلال 30 متجراً في البلدة القديمة وأن هناك 22 ألف مشكلة بناء في القدس يحتاج أصحابها إلى ترخيص ودعم ومساندة قانونية وقال: “لم يبق ملكاً للمقدسيين سوى 13% من مساحة المدينة الاجمالية فقط”.
وتتحدث الخطة عن اعداد القدس لتكون عاصمة فلسطين، واليوم بعد ثلاث خطط استراتيجية ومرور ثلاث اعوام على آخر خطة، فإن الفعل الفلسطيني المنظم في القدس ضعيف ولا يتناسب مع اجراءات تهويد المدينة واسرلتها.
الحرب على المؤسسات
تلاحق سلطات الاحتلال المؤسسات المقدسية وتحارب نشاطاتها، وأغلقت أكثر من تسعين مؤسسة منذ أوسلو إلى اليوم، ثلاثون منها خلال عامين فقط. وكان عددها قد وصل قبل قيام السلطة أكثر من مئة مؤسسة نقابية وأهلية.
ومن هذه المؤسسات التي كانت ناشطة، لجان العمل الصحي التي تأسست في القدس، وقدمت خدماتها في الضفة الغربية وقطاع غزة وتعمل منذ سنة 2003 في رام الله، وهي من المؤسسات التي غادرت المدينة بسبب الجدار والحواجز والضغوطات الاسرائيلية التي تلاحق أنشطتها، لكنها حاولت الابقاء على مكاتبها على الرغم من رحيلها، إلى أن أُغلِقَت بأمر من المحاكم الاسرائيلية وأصبحت المؤسسة اليوم محظورة أمنياً.
رحيل قسري أم طوعي؟
يقول عبد القادر الحسيني “بعد أوسلو انتقل عدد من كوادر مؤسسات القدس للعمل في مؤسسات السلطة، وحسب اوسلو بات ممنوعاً على السلطة تمويل المؤسسات، وصار التمويل الدولي يذهب مباشرة إلى السلطة، فقامت المؤسسات بفتح حسابات لها في البنوك الفلسطينية في الضفة الغربية، لتحصل على الدعم، وهكذا تسجلت المؤسسات في الضفة أيضاً، وفتحت مقرّات وفروع لها وخاصة في رام الله وبيت لحم”. وأضاف: “هناك مؤسسات أغلقت بسبب شح الموارد، أو اشتراط المانحين أن تكون الحسابات في البنوك في الضفة”. ويؤكد إسحق البديري مدير عام بيت الشرق، أنه و”منذ خمسة عشر عاماً والمؤسسات ترحل طواعية واستسلاماً للأسف”. أما أحمد قريع فيقول: “لا إمكانات لدينا لمواجهة المخططات الإسرائيلية ولا حتى دعم المؤسسات لذلك ترحل عن القدس”.
بيت الشرق: الرمزية والدور
كان إغلاق بيت الشرق 2001مرحلة فاصلة في حياة القدس، وبعده لم ينجح المستوى الرسمي في إيجاد مرجعية بديلة بل إن رحيل فيصل الحسيني بشعبيته وعلاقاته الدولية شكّل فراغاً كبيراً لم يملأه أحد منذ خمسة عشر عاماً. كان فيصل الحسيني قد أسس جمعية الدراسات العربية مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وفي التسعينيات أصبح مسؤول لدائرة القدس في منظمة التحرير، فتوسعت دوائر الجمعية وصار المبنى متداخلاً ما بينها وبين بيت الشرق، الذي صار مقراً لمفاوضات مدريد، والمقر شبه الرسمي لمنظمة التحرير، والذي كانت الوفود الرسمية بمستوى وزراء وقناصل ومبعوثين تؤمّه وتجتمع بالمسؤولين الفلسطينيين بالتوازي مع لقائاتهم بالاسرائيليين.
وبعد رحيل الحسيني بسبعين يوماً تجرأ الاحتلال فأغلق مؤسسة بيت الشرق، فغاب صوتها العريق، وحسب نجله عبد القادر الحسيني فإن المؤسسات المقدسية توافقت بالتشاور مع المستوى الرسمي على عدم التوجه إلى محاكم الاحتلال لإعادة فتح بيت الشرق، كونها قضية تتعلق بالسيادة، وأنها قضية مطروحة دائماً في المفاوضات ومع الوفود الدولية. ويُبرر إسحق البديري ذلك بأن هناك تخوفاً من احتمال اصدار قرار محكمة العدل العليا الاسرائيلية قراراً ضد المؤسسة، فيستحيل بالتالي إلغاءه، ولا يعود ممكنا إعادة فتحه.
ولا يرى الرويضي وجود مبرر قانوني للتوجه للمحاكم الدولية بشأن قضية بيت الشرق لأنه ليس قضية جنائية. لكن ثمة قانوني آخر يخالف رأي الرويضي ويعتبر الأمر ممكن، حيث شدّد عصام عابدين رئيس وحدة المناصرة المحلية والدولية في مؤسسة الحق، على ضرورة إدراج قضية بيت الشرق ضمن ملف شامل يُحال إلى المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، ضمن الجرائم الدولية التي تُرتَكب في القدس من نهب أملاك واضطهاد وفصل عنصري، وهي جرائم من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ويقول: “هذا بحاجة إلى حرفية عالية في بناء الملفات القضائية، وضمن حملة دولية واسعة النطاق ورؤية مبنية على توثيقات مهنية لفضح تلك الجرائم وحشد الرأي العام حولها واستنهاض سفاراتنا والشتات الفلسطيني”.
بقي بيت الشرق مكاناً رمزياً يضيء فيه الفلسطينيون الشموع في ذكرى رحيل الحسيني، وما زالت الحكومة الفلسطينية تسدد أجرته حسب الرويضي، وبعض دوائره تعمل خارج القدس بصورة محدودة. لكن النائب جهاد أبو زنيد، اعتبرت أن منظمة التحرير لم تهمل فقط بل قصّرت بشكل مقصود أيضاً، في طرح قضية بيت الشرق والمؤسسات الأُخرى على الأجندات الفلسطينية والدولية. فضلاً عن أن القضية لم تتحول إلى قضية رأي عام ولم تعد وسائل الإعلام تتداولها. ويؤكد إسحق البديري بدوره التقصير، فيقول: “الجهود الرسمية الفلسطينية مُقصِّرة أمام حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف، وعلى منظمة التحرير والمفاوض الفلسطيني أن يقوما بدور ضاغط، والجميع أهمل القضية”.
وفيما يتعلق بمسؤولية المنظمة عن هذه المؤسسات ولاسيما بيت الشرق، يقول البديري: “منظمة التحرير هي هي المسؤولة، وتمثل القدس في المؤتمرات والندوات وليس أيّاً كان! بيت الشرق له مكانته وإن شاء الله تعود الأمور إلى هذه المكانة”.
القدس.. بلا عنوان
تؤكد الباحثة نائلة الرازم، تعدد المرجعيات الرسمية الفلسطينية الخاصة العاملة في المدينة تحت مظلة منظمة التحرير أو السلطة الوطنية. والسبب يعود، وفقاً لها، إلى اعتبارات شخصية، وليس ضمن رؤية واضحة تعكس جدية التعامل مع القدس وقضاياها، ولذا تداخلت الصلاحيات والمهام، ونشوء ظاهرة “الاستزلام” لكل مرجعية من المرجعيات، جرّاء الصراعات فيما بينها والتي طغت على تقديم الدعم إلى القدس. وتضيف أن توزيع جزء من التمويل المخصص للقدس، هو لتغطية المصاريف التشغيلية لهذه المرجعيات الخمس والمتمثلة في: “دائرة شؤون القدس” التابعة لمنظمة التحرير برئاسة أحمد قريع؛ “مؤتمر القدس” بقيادة الراحل عثمان أبو غربية عضو اللجنة المركزية لحركة فتح؛ “وزارة القدس”؛ “محافظة القدس”؛ “وحدة شؤون القدس” في ديوان الرئاسة. ثم جرى ابتكار لجنة عليا برئاسة الرئيس محمود عباس.
باختصار ثمة تخبط عنوانه دوران المسؤولية وعدم استقرارها من دون أن يعرف أحد ما هي الحكمة من هذا الدوران، وكثيرون ممن طرح عليهم السؤال أكدوا عدم وجود مرجعية محددة للقدس. بينما طالبت النائب أبو زنيد بتوحيد المرجعيات، وأن يكون للتشريعي دور فيها لأن من يدفع الثمن برأيها، نتيجة هذا هو المواطن المقدسي ومؤسسات القدس.
لكن المحافظ والوزير الحسيني يعتبر ان اللجنة العليا آداة توحيد، إذا أنها تأسست في سنة 2011، وتجتمع بشكل شبه شهري، وتضم: الرئيس أو من ينوب عنه؛ رئيس الحكومة؛ انتصار أبو عمارة مديرة مكتب الرئيس وأمينة السر؛ أحمد قريع؛ الراحل عثمان أبو غربية؛ جواد ناجي مستشار رئيس الوزراء للصناديق العربية؛ ومحافظ ووزير القدس.”
واللافت أن استقبال شخصيات رفيعة المستوى في القدس خفتَ كثيرا،ً وهي تحتاج إلى تصريح إسرائيلي. ثم إن المسؤولين الأجانب يرفضون أحياناً جولات في القدس الشرقية بسبب امتثالهم للتحذيرات والتهديدات الإسرائيلية، ويبدو أنه لا يوجد موقف رسمي فلسطيني بمستوى التحدي ومواجهة الغطرسة الإسرائيلية. ولا مواقف نقدية تجاه تراجع الأصدقاء الضيوف. وكان محافظ القدس استقبل في باحات المسجد الأقصى رئيس وزراء سنغافورة. فهل المشكلة في القيود والمنع الإسرائيلي أم في المبادرة الفلسطينية وسياسة القبول بالأمر الواقع الإسرائيلي؟
وتنتقد نائلة الرازم حصر ملف محافظة القدس والوزارة ضمن مسؤولية شخصية واحدة وهي عدنان الحسيني، مشيرة إلى أن هذه سياسة تثير تساؤلات إدارية وقانونية من حيث الإزوداجية في التسمية، والتبعية والمساءلة، ومنح وحجب الثقة، وآلية الصرف من الميزانية.
أما الحسيني فيعتب الأمر تكاملي ويخدم منطقة جغرافية واحدة، فالمحافظة دورها خدماتي والحفاظ على الأمن والسلامة العامة ومراقبة التراخيص ومواءمتها للشروط، فيما تقوم الوزارة بكل ما له علاقة بدعم صمود الإنسان بسبب أوضاع القدس الخاصة قانونياً ومادياً. موضحاً أن المؤسستين هما في مبنى واحد ويبلغ عدد موظفي المحافظة أربعين، وموظفي الوزارة ستة عشر، وعندما سئل الوزير كيف يتابع من مكتبه الواقع في الرام خارج الجدار مشكلات المقدسيين داخل الجدار فقال: “أقوم بجولة ساعة أو ساعتين داخل القدس يومياً ومكتبي مفتوح للجميع.” وإذا علمنا أن مكاتب المحافظات عادة تكتظ بالمراجعين والشكاوى فكيف إذا كنا نتحدث عن محافظة القدس التي يقطنها 400 ألف مقدسي داخل الجدار وخارجهـ يعيشون في 44 تجمعاً وبلدة، ويشكلون 38% من مجمل سكان محافظة القدس بشقيها الشرقي والغربي… فهل تكفي ساعتان؟!
بعض الأمل…
وعلى الرغم مما سبق فما زالت مؤسسات عديدة موجودة في القدس، ومنها المسرح الحكواتي؛ ومعهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى؛ مؤسسة يبوس الثقافية. وتقول المديرة العامة لمؤسسة يبوس رانية الياس: “التمويل هو مشكلتنا الرئيسية، واستراتيجيتنا عدم الاعتماد على الممول الأجنبي ورفع الدعم الفلسطيني سواء من الإيراد أو من القطاع الخاص، وإشراك المجتمع في ذلك ليشعر بالانتماء إلى المكان، ولا نوافق على أي دعم مشروط.”
ويؤكد عبد القادر الحسيني أن مؤسسة فيصل الحسيني استطاعت تنفيذ بسلسلة مشاريع في قطاع التعليم في القدس داخل الجدار رغم وجودهم خارجه، موضحاً أن العمل بعيداً عن الإعلام مُجدٍ أكثر، فأي نشاط يعلن عنه تلاحقه إسرائيل وتصبح المؤسسة معرضة للإغلاق، وأن المؤسسات تستطيع المواءمة بين الضفة والبقاء في القدس.
أما مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، والذي نجح بالبقاء في القدس فتحدث مديره العام زياد حموري عن سر البقاء قائلاً: “نحن هنا بالمباطحة، لكننا كنا سبعة وعشرين موظفاً بينهم سبعة محامين واليوم نحن خمسة فقط.”
إن أي مقارنة بين التعامل الفلسطيني والإسرائيلي مع مدينة القدس، ستكون صادمة جداً، إذ ثمة بون شاسع بين الاستراتيجية الإسرائيلية المخصصة لضم المدينة وتهويدها وأسرلتها، وبين اللااستراتيجية الفلسطينية؛ بون شاسع أيضاً بين التحويل الكولونيالي الإسرائيلي للمدينة والإخفاق الفلسطيني في صده. ثمة تباين هائل في الميزانيتين، وتباين بين عملية الهدم ومنعه أو البناء المضاد. وحتى الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي وغير الرسمي لا يعكس ما يحدث على الأرض. العجز والرضا بالأمر الواقع، والانتظار، والصمت، تلك المواقف التي يتسم بها موقف المنظمة والسلطة والمعارضة، هي مواقف تفصل أصحابها عن المقدسيين الذين يتعرضون للتطهير العرقي، لكنهم يصمدون، فينجحون قليلاً، ويفشلون كثيراً ويقاومون، وقد خلَقوا وقائعهم المتمثلة في وجودهم الديموغرافي، بلا مؤسسات.
والسؤال، هل تتضافر المؤسسات الصامدة مع مؤسسات في الخارج لدعم المدينة، والأهم هل تبني الحركات الشبابية والاجتماعية مؤسساتها؟
المصدر: مجلة الدراسات الفلسطينية، عدد 109، شتاء 2017
رابط قصير:
https://madar.news/?p=24906