مركز ترميم المخطوطات: إنقاذ لكنوز المعرفة الإسلاميّة في القدس
يعمل في مركز الترميم 10 مرمّمين تلقّوا تدريبات على يد خبراء عالميّين في المسجد الأقصى وفي عدد من المراكز العالميّة، رفعوا اسم المركز عاليًا حتّى احتلّ المرتبة الأولى في الترميم على مستوى الشرق الأوسط، والمرتبة الرابعة عالميًّا بحسب تصنيف خبراء اليونسكو.
شيّد المسلمون حضارة مزدهرة قامت على أسس متينة من العلم والمعرفة، وانتشرت صنوف العلم في ربوع بلادهم وتعدّدت مناراته، وحظي المسجد الأقصى باهتمام كبير من قبل العلماء وطلبة العلم، فغدا إلى جامعة ضمّت مئات حلقات العلم التي تناولت ضروبًا مختلفة من العلم الشرعيّ وغيره؛ كالفلسفة والرياضيّات والكيمياء والفيزياء، حتّى وصلت المواضيع التي تدرّس في المسجد الأقصى إلى أكثر من 20 موضوعًا مختلفًا في بعض العصور.
مخطوطات الأقصى
واجتهد طلبة العلم في تدوين العلوم التي يتلقّونها مشافهة عن كبار العلماء، ونسخ المخطوطات التي كانت تصل بيت المقدس من العلماء خارج فلسطين، فنتج عن ذلك كمّيّة ضخمة من المخطوطات، وهو ما ساهم في تكوين مكتبة في المسجد الأقصى تضمّ مجموعة ضخمة من الكتب والمخطوطات في شتّى المعارف، فأصبح الأقصى مسجدًا وجامعة ومكتبة.
تميّزت مخطوطات المسجد الأقصى بقيمتها العلميّة وباحتوائها على زخارف فريدة، وبأنّها مغلّفة بالجلود الطبيعيّة، وأوراقها مصنوعة من ألياف السيللوز المستخرجة من لحاء الأشجار؛ ولذلك نجدها اليوم بعد ما يقارب الألف عام على كتابتها، قد تغيّر لون جلودها وأوراقها، أو تغذّت على أجزاء منها بعض الكائنات الحيّة، أو التصقت أوراقها ببعضها نتيجة الاستخدام البشريّ والعوامل الجويّة وسوء التخزين.
إنجازات عربيّة وعالميّة
وحفاظًا على هذا الكنز المعرفيّ والعلميّ، ارتأت دائرة الأوقاف الإسلاميّة في القدس أن ترمّم المخطوطات، فافتتحت في شهر رمضان من عام 2008 مركزًا لترميم المخطوطات في مبنى المدرسة الأشرفيّة، الواقعة في الرواق الغربيّ للمسجد الأقصى.
ومنذ ذلك الحين، أصبح مركز ترميم المخطوطات مكانًا يربط الماضي بالحاضر، ويسافر بكلّ من يزوره إلى أزمنة قديمة، ويوضح للزائر طريقة التعليم والكتابة في تلك الأزمنة، إذ يضمّ المركز أعدادًا كبيرة من المخطوطات التي تنتظر الترميم، وأخرى منتشرة بين أيدي العاملين الذين يعالجونها ثمّ يرسلونها إلى مكتبة الأقصى أو المتحف الإسلاميّ.
يعمل في مركز الترميم 10 مرمّمين تلقّوا تدريبات على يد خبراء عالميّين في المسجد الأقصى وفي عدد من المراكز العالميّة، رفعوا اسم المركز عاليًا حتّى احتلّ المرتبة الأولى في الترميم على مستوى الشرق الأوسط، والمرتبة الرابعة عالميًّا بحسب تصنيف خبراء اليونسكو.
من التوثيق حتّى الخياطة
أمّا مراحل الترميم، فإنّ طاقم المركز يعمل، في المرحلة الأولى، على فهرسة المخطوط بطريقة علميّة، وذلك بتوثيق مؤلّفه وناسخه وموضوعه وفترته الزمنيّة وعدد صفحاته وحالته قبل الترميم، ثمّ يصوّر العاملون المخطوط رقميًّا، ليرمّموه بعد ذلك إلكترونيًّا باستخدام برامج خاصّة بمعالجة الصور.
بعد ذلك، يُعَقَّمُ المخطوط لقتل أشكال الحياة العضويّة كافّة فيه، عن طريق تخزينه مدّة شهرين داخل أكياس خاصّة مفرغة من الأوكسجين ومضغوطة بغاز النيتروجين. وبعد انقضاء فترة التعقيم، تأتي مرحلة المعالجة الكيميائيّة بإجراء عدّة فحوصات للمخطوط، كفحوصات الألياف والحموضة والأكسدة والأختام وأنواع الحبر المستخدم في كتابته، ومن ثمّ يُغْسَلُ المخطوط لإزالة حموضة واصفرار الأوراق وتقوية ثبات الحبر.
ولإعطاء الأوراق لمعانًا خاصًّا ومرونة من جديد، ولحماية المخطوطات من البكتيريا والحشرات مستقبلًا، يصمغها العاملون في المركز باستخدام أصماغ طبيعيّة خاصّة، تحتوي نسبة من سمّ الفينول، ثمّ تُكْبَسُ الأوراق لتسويتها من جديد.
في مرحلة الترميم اليدويّ على الطاولات المضيئة، تُدْعَمُ الأوراق بألياف ‘الفالينا’ الطبيعيّة، ثمّ تُرَقَّعُ الثقوبالتي أحدثتها الكائنات الحيّة في الورق باستخدام الورق اليابانيّ، وأخيرًا تُجَمَّعُ أوراق المخطوط وتُخاط من جديد.
3 سنوات في أسر الاحتلال
إنّ موقع مركز ترميم المخطوطات في قلب المسجد الأقصى، جعل الاحتلال يحاول باستمرار عرقلة إنشائه وعمله، إذ احتجزت سلطات الاحتلال موادّ ومعدّات الترميم المستوردة للمركز في ميناء أسدودجنوب فلسطين المحتلّة مدّة ثلاث سنوات، ولم تفرج عنها إلّا بضغط من الديوان الملكيّ الأردنيّ، وبدعم منه قيمته 70 ألف دينار أردنيّ لفكّ الحجز.
وتستمرّ تضييقات الاحتلال على مركز ترميم المخطوطات إلى الآن، إذ تضيّق شرطة الاحتلال وتماطلفي إدخال الموادّ اللازمة للترميم إلى داخل الأقصى، وتمنع موظّفي الترميم من دخول المسجد في أيّام إغلاقه، كما تستدعيهم للتحقيق، ما يؤثّر في سير عمليّات الترميم ويؤخّرها.
أربعة آلاف مخطوط
‘ضمّت مكتبة المسجد الأقصى المبارك آلاف المخطوطات عبر العصور، ‘كما يقول مدير مركز ترميم المخطوطات، رضوان عمرو، لفُسْحَة ثقافيّة – فلسطينيّة، ‘إلّا أنّ الاحتلال الصليبيّ والبريطانيّ والإسرائيليّ لمدينة القدس، وتبدّل السيادة على المدينة باستمرار، أدّى إلى سلب وفقدان الكثير منها، فلم يبقَ منها في يومنا هذا سوى أربعة آلاف مخطوط.’
وقد أشار البروفيسور الإسرائيليّ، جيش عميت، من جامعة بن غوريون، في أطروحة دكتوراه، إلى أنّ في حوزة المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة والأرشيف الوطنيّ الإسرائيليّ ما يقارب ثلاثين ألف مخطوط فلسطينيّ سُلِبَتْ خلال نكبة عام 1948 وحرب 1967، والكثير منها سُلِبَ من مكتبات ومساجد ومنازل القدس القديمة.
يطمح رضوان عمرو وفريقه إلى أن يلحق بمركز ترميم المخطوطات قسم آخر لتحقيقها وطباعتها، وذلك لنشرها على أوسع نطاق لطلبة العلم والمهتمّين حول العالم، ولتتمكّن الأجيال من الاستفادة من العلوم والمعارف القيّمة التي تحتويها تلك المخطوطات، لا سيّما أنّ في ذلك خدمة للإرث العربيّ الإسلاميّ، وللمعرفة الإنسانيّة، كما يساهم في حفظ هويّة المكان وتاريخه.
عرب 48
رابط قصير:
https://madar.news/?p=14123