نابلس: الآثار.. أجمل من دون نفايات
زهران معالي: تحتضن محافظة نابلس شمال الضفة الغربية، منجما كبيرا من الآثار الرومانية والكنعانية وبقية الحضارات التي تعاقبت على حكم المدينة، إذ تبلغ المعالم التاريخيّة والأثريّة فيها نحو 1200، منها 266 موقعا أثريا مسجلا.
لكن على الرغم من احتواء المحافظة على كنوز أثرية لا تقدر بثمن؛ يرجع تاريخها لآلاف السنين، إلا أن مواقع كثيرة منها تعاني من إهمال واضح للعيان؛ يعكسه تكدس النفايات ومخلفات المحلات التجارية، وعجز في المتابعة من قبل الجهات المختصة، خاصة وسط مدينة نابلس.
خلال جولة على عدة مواقع أثرية في المدينة، كانت تخطف أبصار كل من زارها قديما، تبين أنها باتت أشبه بمكبات صغيرة للنفايات وحدائق للحشائش، ومسرح للكلاب الضالة والقوارض.
أحد تلك المواقع ميدان سباق الخيل وسط مدينة نابلس، والذي يعود تاريخه إلى القرن الثاني الميلادي، إلا أنه هدم في القرن الثالث الميلادي. وتم اكتشاف أجزاء منه في البداية سنة 1941، وفي سنة 1980 تم اكتشاف البوابات الحجرية لمداخله السبعة، التي كانت تقف عندها عربات المتسابقين ثم الكشف على أساسات مقاعد المتفرجين على جانبي الممر، ويعتقد بأنه كان يتسع لثمانية آلاف متفرج.
المواطن فهمي ريحان (36 عاما) والذي يعمل منذ أربع سنوات في مصف للسيارات بالقرب من إحدى القطع التابعة للميدان، يشاهد يوميا “أصحاب المحلات التجارية القريبة من الميدان ومارة، يلقون مخلفات محلاتهم من عبوات فارغة، بالإضافة لأكياس من الطمم يلقيها بعض المواطنين“.
قبل أربع سنوات لم يكن الواقع هكذا، إلا أن ظاهرة إلقاء النفايات في الموقع الأثري ازدادت منذ سنتين، تحدث ريحان لـ”وفا”، الذي “دائما ما يقع بمشاكل مع ملقي النفايات بالموقع“.
على مقربة من ميدان الخيل، أغلق عبد الله الأسطة الذي يعمل في مطبعة منذ 30 عاما إحدى دفات بوابتها، “خوفا من دخول القوارض المنتشرة بالموقع لمحله”، قائلا: “هذه المنطقة أكثر منطقة مهملة في نابلس، لا يوجد أحد مسؤول، لا يوجد عمال نفايات، ولا سيارات شرطة تنظم حركة السير، أو حتى أرصفة للمشاة“.
ويوصف الأسطة المنطقة بأنها “موبوءة، لا تتوفر فيها خدمات مجارٍ وصحة، وكذلك رقابة وتنظيف على تلك المواقع لا يوجد مسؤول”، محملا وزارة السياحة والآثار وبلدية نابلس مسؤولية الإهمال الحاصل بالمنطقة الأثرية.
ويقتصر تنظيف الموقع الأثري وفق الأسطة، على مجموعات تطوعية من طلبة الجامعات تحضر في فترات متباعدة بمبادرة من البلدية؛ إلا أنها غير كافية، فمعالم الموقع التي كانت واضحة للعيان سابقا، اختفى بعضها إثر تراكم النفايات وانجراف الأتربة بفعل الأمطار.
ويطرح الأسطة حلولا لمواجهة اندثار تلك المواقع، كإغلاقها عبر طمرها بالرمل، واستغلال المكان عبر السماح لأهلها بالبناء عليها مع الحفاظ على تلك المواقع، أو تنظيفها بشكل مستمر ووضع سياج عليها.
ورغم الاتهامات بالقصور بالحفاظ على نظافة الموقع، إلا أنه كان مقصدا لطلبة قسم خدمة المجتمع في جامعة النجاح الوطنية لمدة عامين كاملين، حيث تطوع ما يقارب من 100 طالب لتنظيف المواقع كل يوم سبت، واستطاعوا إزالة 56 حاوية نفايات من الحجم الكبير، وفق ما أوضح بلال سلامة، مدير مركز الخدمة المجتمعية والتعليم المستمر في الجامعة.
ويتابع: في مركز خدمة المجتمع تطوع الطلبة في أصعب نقطة بتلك المواقع وهو ميدان سباق الخيل، الذي ترك في أعقاب الانتفاضات لعدة سنوات مهملا، وتراكمت فيه النفايات وكادت أن تطمر معالمه.
ويقول سلامة، “من المحزن أن وسط مدينة نابلس لا يعكس حضارتها وتاريخها وعراقتها، من يملك آثارا يجب أن يحافظ عليها للسكان والسائح، فالمواقع الأثرية لم تهمل فقط بل تحولت لمكبات نفايات، أعادت المدينة للوراء عشرات السنين“.
المشهد في المقبرة الرومانية الغربية وهي مقبرة عسكرية، واقعة على طريق نابلس– طولكرم، وأسست في القرن الأول ثم أعيد استعمالها في القرن الخامس الميلادي، وقد اكتشفت سنة 1946 أولا ثم أعيد اكتشافها سنة 1960، لا يختلف كثيرا عن الميدان، فالقبور مدمرة “بفعل فاعل” داخل مغرها، وساحتها مكب لنفايات العمارة السكنية القريبة منها.
المواطن عوني أبو صالح صاحب محل لتصليح السيارات بالقرب من المقبرة قال لـ”وفا”، إن “الموقع عبارة عن مكرهة صحية وليس مقبرة، كل النفايات تلقى من العمارة المجاورة في المقبرة، وتحرق تلك النفايات بعد فترة، عدة مرات تم تنظيفها من قبل متطوعين من الجامعة إلا أن ذلك على الفاضي“.
ويتابع: السياح يأتون لزيارة المقبرة كثيرا؛ إلا أنهم عند مشاهدة منظر المقبرة يغادرون فورا. مضيفا “المقبرة تعرضت لتدمير الشواهد فيها، بفعل فاعل، المقبرة عمرها آلاف السنين، إلا أن اهتمام البلدية ومديرية الآثار ضعيف جدا”.
وفي منطقة رأس العين بالمدينة، خلف بوابة حديدية بين محلات حدادة وبيوت قديمة تختفي تحفة فنية رومانية، شابها الإهمال، وتشوهها الأعشاب وبعض المخلفات. تفتت حجارتها واختفى بعضها، كل ما يدل الزائر أن المسرح الروماني كان هنا لوحة إرشادية وصف من الحجارة القديمة فقط.
ويعزو سلامة التقصير والإهمال الذي لحق بالمواقع الأثرية بالمدينة إلى ثلاث جهات، المواطن والبلدية ووزارة السياحة والآثار.
وشدد سلامة على أهمية وجود برنامج حقيقي للدفاع عن الآثار والمحافظة عليها واستغلالها في تنشيط السياحة في المدينة.
ولم يبرئ سلامة المواطنين غير المنضبطين الذين يدمرون آثار المدينة، قائلا: من يفعل ذلك لا يتحمل مسؤولية ولا يمارس مواطنته”، مضيفا “البلدية بحكم إمكانياتها ومسؤولياتها عن بيئة المدينة يجب أن يكون لها جهد في الحفاظ على تلك المواقع”.
وشدد سلامة على أن مركز خدمة المجتمع جاهز لتقديم الخدمات التطوعية؛ للحفاظ على البيئة وخاصة المواقع الأثرية والتاريخية في المدينة، مشيرا إلى أن المركز قدم ربع مليون ساعة عمل تطوعي للمجتمع المحلي عبر مساق الخدمة المجتمعية.
بلدية نابلس وعلى لسان مدير دائرة الصحة نضال منصور، قال: المفروض أن تأخذ مديرية الآثار دورها الحقيقي في المحافظة على المواقع الأثرية، وعدم اقتصار عملها على إغلاق قطع الأراضي ووقف البناء في حال أراد مواطن البناء على قطعة في وسط البلد ظهر آثار فيها”.
وأضاف منصور ليس دور البلدية أن تضع مراقبا ومفتشا لمراقبة من يلقي النفايات في تلك المواقع، مؤكدا أن “من يقدم على إلقاء النفايات لا يوجد لديهم انتماء ومواطنة، والبلدية تقوم بمخالفة وتحويل للمحكمة أي شخص يلقي النفايات في أي موقع عام وأي أرض مفتوحة“.
ونوه إلى أنه منذ شهر وبتوجيهات من رئيس البلدية سميح طبيلة والأعضاء، تم تشديد الرقابة على ملقي النفايات بالأماكن العامة ومن ضمنها المواقع الأثرية، وإصدار ثلاثين مخالفة حتى اللحظة، ويتم تحويل المخالفين لمحكمة البلدية، كما تم التشديد على رخص الصناعات والمحلات التجارية والمطاعم، وتشديد الرقابة على ملقي النفايات.
وتابع: تم إصدار بيان للمواطنين يحتوي على معلومات وتوجيهات على كيفية التعامل مع الحاويات الصغيرة والكبيرة، وعدم إخراج النفايات إلا في الأوقات المخصصة لجمعها من المدينة .
وأضاف منصور، “يجب أن تأخذ وزارة الآثار دورها الإداري في المحافظة على المواقع الأثرية وتهيئتها للناس، المفروض في أي دائرة في العالم أن تحافظ على المواقع التي يتم العثور على آثار فيها عبر المحافظة عليها ووضع مراقبة خاصة”.
وأوضح أن “البلدية بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المحلي قامت بتنظيف المواقع الأثرية وسط المدينة ما لا يقل عن 10 مرات، وتم وضع سياج من قبل البلدية، وبشكل مستمر يتم بعث موظفين لتنظيفها، إلا أن هذا يبقى حلا ناقصا، والحل المطلوب أن تقوم دائرة الآثار بإيجاد الحل الأمثل بالمحافظة عليها وتهيئتها للسياح للزيارة“.
وقال سلامة إن المواقع الأثرية مسؤولية دائرة السياحة والأثار، يجب أن تضع برنامج محكم ومنسق بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المحلي بالبلد لمتابعة المواقع، فلا يجوز ترك المواقع في حال العثور على آثار مفتوحة، يجب طمره بالرمال وعمل مصفات للسيارات أو استملاك مؤقت، أو تهيئته كموقع أثري للزيارة.
بدوره، قال مدير دائرة الحماية في دائرة آثار نابلس محمود البيراوي، “نشاطنا يتعلق بالترخيص والتفتيش على المواقع الأثرية وحمايتها من الاعتداءات ولصوص الآثار وأي اعتداءات، وفق قانون الآثار رقم 51 لعام 1966“.
وأوضح أن مدينة نابلس معلنة كموقع أثري بشكل عام، وأن المكتشفات المحفورة فيها 4-5 مواقع.
وأكد البيراوي وجود تقصير من قبل المديرية بمتابعة المواقع الأثرية؛ عازيا ذلك لنقص الموظفين في الدائرة فهي تضم ثلاثة موظفين فقط لكل المحافظة لا تتوفر مركبة لتنقلهم، وكذلك للعجز في الميزانيات، ولكون القانون غير رادع.
وأضاف، “على مر السنوات السابقة والعام الجاري يتم تنظيم فعاليات لتنظيف هذه المواقع بالتعاون مع الجمعيات التطوعية وكذلك توعية المجتمع بأهميته، إلا أن قرب المواقع من المباني السكنية وأسواق الخضروات والبسطات، وهذا له علاقة بالثقافة العامة بالمجتمع حيث دائرة الآثار تهدف لحماية والحفاظ على الآثار وتهيئتها، إلا أن المواطن من يلقي النفايات في تلك المواقع”.
وأكد أن “دائرة الحماية فيها ثلاثة موظفين لتلك المواقع، لا نستطيع متابعة جميع المواقع الأثرية في المحافظة، لا نستطيع وضع موظف لمراقبة على كل موقع. ثلاثة موظفين يقومون بالتفتيش والمراقبة وإدارة المواقع”.
وأكد أن المواقع الأثرية ما زالت خاضعة للحفريات وليست مهيأة للسياحة، وبحاجة لاستكمالها إلا أن ذلك يواجه صعوبات بأن جميعها ملكيات خاصة بحاجة لاستملاكها من قبل الحكومة، حيث تم رفع كتب ببعض القطع للشراء كالمقبرة الرومانية الغربية والمدرج الدائري وبحاجة لمبالغ مالية عالية.
وحول ميدان سباق الخيل، قال البيراوي إن عدة لجان تشكلت لموقع منطقة الدوار، وكان هناك طرح ببناء أعمدة فوق الموقع الأثري أو على أجزاء منه إلا أن أصحاب الأرض لم يتجاوبوا مع الطرح، وفي النهاية وبعد اجتماعات في البلدية ومديرية الآثار تم تشكيل لجنة فنية ورفعت توصية باستملاك المنطقة.
ونوه إلى أنه فق القانون يجب استملاك المواقع الأثرية، إلا أن استمرار ملكيتها من قبل المواطنين حال دون توفر مشاريع لتمويل تهيئتها وترميمها، مشيرا إلى أن مشروعين قدما لتهيئة المسرح الروماني رفضا هذا العام كونه ملكية خاصة.
وأوضح البيرواي أن حال المواقع الأثرية يختلف في حال كان هناك استملاك لها كما في تل بلاطة البالغ مساحته 54 دونما، حيث استملكت الحكومة 13 دونما والوزارة هيأت الموقع وأقامت مركز استعلامات وقاعات ومتحفا مفتوحا للسياح كونه في أرض حكومية.
وحول متابعة التعدي على المواقع الأثرية، أوضح أنه “تم إنذار عدد من أصحاب المحلات والمؤسسات القريبة، وتم تحويل 47 قضية للاعتداء على المواقع الأثرية للقضاء كأعلى محافظة بالوطن، بينها إلقاء نفايات واعتداء“.
وأكد أن مديرية آثار نابلس بحاجة على الأقل لــــ10 موظفين على مستوى المحافظة لضبط ومراقبة تلك المواقع، مشيرا إلى أن هناك تعاونا مع البلدية للقيام بجولات مشتركة وكذلك مع شرطة السياحة.
وكشف البيراوي عن وجود توجه لدى الوزارة لوضع سياج حول بعض المواقع الأثرية، وكذلك توظيف عمال نظافة دائمين بتلك المواقع، واستملاك المواقع الأثرية لتهيئتها للسياحة.
وكالة وفا
رابط قصير:
https://madar.news/?p=19527