نابلس حلوة .. ماذا يريد محرر الأخبار؟ ..جميل ضبابات

كان بعض سكان المدينة يعبرون لتوهم النفق العجيب الذي كثر الحديث عنه في السنوات الماضية.
في الحقيقة كان يمشون وراء رئيس الحكومة الفلسطينية آنذاك الدكتور سلام فياض.
وهذا الرجل المعروف لدى الناس ووسائل الإعلام بحركته المستمرة كان قد تسلم قبل نحو نصف ساعة مفاتيح بوابات نابلس الشهيرة، ثم استقل مركبة حديثة سار فيها عشرات الأمتار في أول نفق تحت أرضي يتم إنشاؤه في الأراضي الفلسطيني.
حدث هذا في التاسع من آذار ٢٠١٠. تجمع الناس حول الرجل الذي ظهر بربطة عنق باذنجانية وبذلة ذات لون سكني غامق وشفتين تنفرجان عن ابتسامة رضى.
تحلقوا حوله وهم ينظرون إلى نهاية المسرب (النفق) فيما كانت المركبة التي استقلها بنفسه كاول عابر للنفق تسير إلى ساحة أرضية واسعة تستخدم موقفاً للمركبات العمومية.
في تلك الساعة من عصر ذلك اليوم كنا نحن الصحافيين والعشرات بمن فينا من وزراء ودبلوماسيين غربيين اول الداخلين الى عصر جديد من عصور هذه المدينة التاريخية.
اقتربت من فياض، وهو الذي بادرني من قبل باتصال تلفوني في احدى الليالي يريد صحافة حقيقية تنقل المسؤولين والناس من الزوايا المظلمة إلى المراحات الرحبة المضيئة.
اقتربت منه وسألته: كيف ترى المدينة اليوم؟ قال”نابلس حلوة، وكل يوم تحلى أكثر”.
قلت في لحظتها: هذا اقتباس جيد للقصة التي سأكتبها حول النفق في هذه المدينة الجميلة!.
فكرت في عنوان: أول الأنفاق في مدينة الزقاق، واستثنيته لاحقا، إذ سترون أن المدينة اشتهرت بانفاقها منذ ألفي عام.
في ذلك اليوم، تحدث الجميع عن الآمال الخلاقة الشاملة الكبيرة لإيقاظ روح هذه المدينة التي وضع فيها الاسلاف الكنعانيون أول الحجارة قبل الاف السنين، وكانت خلال السنوات الماضية فقدت جوهرها الأساس وهو النشاط الاقتصادي الذي خلخلته القلاقل التي عصفت بالمدينة واقتصادها.
حين استغرقت فجرا في التفكير بهذا المشهد اشتعلت حماسا للرد على رسالة وصلتني عبر فيس بوك من محرر الاخبار في مدار نيوز، ولم اجد غضاضة في نشرها كما هي مع الاشارة الى حذف اخر كلمتين منها. تقول الرسالة” غدا بدنا مقال …نابلس تتمسك بماضيها من خلال أي قصة بدك اياها…مش اكثر من 600 كلمة بالحد الأعلى (كلمتان محذوفتان)”.
منذ افتتاح النفق وثمة ظاهرة مقلقة تتجدد يوميا في المنطقة المحيطة به.
صباحا ومساء أذرع الطريق بين العمل وموقف السيارات، وامر مثلما يمر المارون عن قمامة يومية، تتجمع كل لحظة.
هذه القمامة لا تتجمع بسبب تقصير في جمعها من قبل العمال الذين يعملون بالطاقة القصوى، لكنها تتجمع بسبب ثقافة سيئة عند البعض.
كلنا نعرف هذه العادة السيئة: ثقافة رمي المهملات( اكواب قهوة، وأكياس فارغة، وبقايا طعام وكل ما يحمله الإنسان ويسعى للتخلص منه).
عرفت الأنفاق في نابلس حقيقة منذ ألفي عام تقريبا كحل هندسي لانسياب الماء في المدينة من المناطق الاعلى الى الاسفل، وحدث أن كان عصر الانفاق هذا في المدينة بعد أن بناها الرومان عام ٧٢ للميلاد في زمن الإمبراطور فاسبسيان.
حدست أن المحرر سيفكر فيما اذا كان الناس في ذلك الوقت يرمون قمامتهم الى جانب تلك الانفاق ويلوثون ماءها؟ قلت لن القي الكلام على عواهنه، ولنتحقق لاحقا كيف بدأت هذه العادة: عادة رمي القمامة في مركز المدينة عند مداخل النفق! ومن هم هؤلاء الذين يتحدون الحديث النبوي ” النظافة من الإيمان”؟ قادت المدينة الحضارة الى أعلى قيمها، منذ بناء شكيم القديمة بأبراجها الدفاعية وأسوارها وحتى نيابوليس الرومانية بقنواتها التحت ارضيه ومدرجاتها الفنية.
ودون شك فقد حافظ أولئك القائمين على من المدينة بنسخها المختلفة على نظافتها.
تستحق نابلس ان تظل حلوة. تستحق ان تظل متمسكة ببهائها الجميل، وجبالها المتناغمة.
تستحق ان تشبع أرواح زوارها بالحلاوة والنظافة.
وتستحق ان تذكر دائما بنظافتها.
دعوني اذكر بوصف صحافيين غربيين دخلا الى المدينة بفارق ١٤٨ عام بين رحلتيهما، ودونا وصفين مختلفين لمركزها.
في تموز من العام ٢٠١٤ وصل الصحافي الدانماركي الراحل صاحب الرؤى التجديدية في خلق صحافة جديدة تعتمد على مهارة وفعل الصحافي الواحد( One Man Show) الى مركز المدينة ولفت نظره أكواب القهوة الكثيرة الفارغة الملقاة قرب مداخل النفق.
سجل لارسن الذي داهمه مرض السرطان قبل أن يكمل مشروعه الإعلامي الواعد ملاحظته السلبية في دفتره الصغير وغادر المدينة حاملا ملاحظات كثيرة عن تاريخها وجمال مبانيها والود الذي يطفح من وجوه اهلها.
بعد أشهر التقينا عند ضفاف بحيرة تيسترب وهي واحدة من اجمل بحيرات اسكندنافيا وليست بعيدة كثيرا عن العاصمة كوبنهاجن وأسر لي يومها، أن رجلا واحدا يسكن بالقرب مع زوجته وهي صحافية سويدية يدافع عن نظافة هذه البحيرة أمام تغول رؤوس الأموال التي حاولت الوصول إلى ضفافها للبناء حولها.
كانه كان يريد القول: ان لا أكواب فارغة على الضفاف الجميلة.
الرحالة والصحافي الفرنسي فرانسوا ميشو وهو واحد من أشهر الصحافيين في عصره وساهم في تحرير مجموعة من الصحف والمطبوعات التي ساندت الملكية في فرنسا دخل الى المدينة فجر يوم من أيام تموز عام ١٨٣٠.
دلف ميشو الى المدينة عبر احدى بواباتها التاريخية وصف المدينة في واحد من كتب رحلاته( مراسلة من الشرق)” مدينة تمنح احساسا شاعريا(…) أشجار الزيتون التي تحيط بها كالحزام منحتها منظرا أخاذا.
مدينة لم يخلق الله لها مثيلا في بلاد الشرق”.
احتراز: هذه المقالة هي انجاز تطوعي لمدار نيوز.
رابط قصير:
https://madar.news/?p=15888