فالتر هيرمان مؤسس «حائط المبكى الفلسطيني» يترجل عن فرسه

علاء جمعة
كولونيا : من يزور مدينة كولونيا الألمانية الواقعة في محافظة شمال نهر الراين، تقع عيناه أولا على كاتدرائية كولونيا، وهي أحد أشهر الصروح المعمارية والدينية المهمة في ألمانيا وتتمتع بقدرة عالية على جذب أكبر نسبة من السياح عرفتها ألمانيا. هذه الكاتدرائية تعد الرمز الحقيقي لمدينة كولونيا وهي مقر رئيس أساقفة المدينة. عندما انتهى بناء برجيها في العام 1880 كانت أطول بناء في العالم (برجاها يرتفعان إلى 157 متراً) وبقيت كذلك حتى بناء صرح واشنطن عام 1884. وبالقرب من الكاتدرائية تقع عينا الزائر على معلقات كارتونية وصور وخرائط لفلسطين باللغة الألمانية، وما ان يقترب المرء ويرى التفاف الناس حول الصور والمعلقات حتى يدرك أنها للألماني العجوز فالتر هيرمان صديق الفلسطينيين الذي رحل عن الحياة أخيرا، تاركا لوحاته التي حملها طيلة عشرين عاما.
الراحل فالتر هيرمان كان صاحب هذا المكان، ووجوده مع لوحاته وصوره عن فلسطين والتي سماها «حائط المبكى الفلسطيني» شكلت دائما معلما سياحيا بارزا لأجيال عديدة. ففالتر لم يبارح مكانه في مركز المدينة الألمانية العريقة منذ عشرين عاما، إلى أن غيبه الموت. وبالرغم من الضغوط الكبيرة التي مورست عليه من أجل إخلاء المكان صمد فالتر، وبقي يرفع صور فلسطين عاليا، ويشرح للزوار ولأهل المدينة عن الظلم الكبير الذي وقع على الفلسطينيين، وعن التشرد الذي أصابهم، ولم يمنعه كبر سنه من الوقوف لساعات طوال ثلاث مرات اسبوعيا بجانب منصته الشهيرة والتي يعرض فيها باللغة الألمانية الاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني وينقل للعالم واقع الحياة المرير الذي يحياه الفلسطينيون من جراء الاحتلال الإسرائيلي.
فكرة المشروع ونشأته
وعن فكرة المشروع تحدث أصدقاء فالتر لـ «القدس العربي» أن «حائط المبكى الفلسطيني والذي سماه كذلك لجذب الانتباه أولا، ولكي يعرض للعالم حجم المأساة التي يعيشها الفلسطينيون، يتكون من عدة أقسام، فالقسم الأول عبارة عن صور ومعلقات تتحدث عن حياة الفلسطينيين وهي تتغير كلما سمحت الظروف المادية بذلك أو كلما طرأ حادث جديد على الساحة السياسية كالحرب على غزة مثلا، بينما يتكون الثاني من مساحات كرتونية فارغة كان يطلب فالتر من الناس أن يكتبوا رأيهم في القضية الفلسطينية وموقفهم من إسرائيل، ويتكون الثالث من مجلد ضخم كان هيرمان يطلب من زواره أن يوقعوا على مناشدة لانهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين الفلسطينيين، وتم جمع عشرات الآلاف من التواقيع خلال فترة عشر سنوات وهي عمر المشروع.
ويقول نمر عاروري أحد أصدقاء الفقيد: «فالتر هيرمان يحطم رقما قياسيا في الوفاء لفلسطين رأيته للمرة الأولى عام 1991 أمام كاتدرائية «كلونر دوم» الأهم في المانيا والتي يزورها يوميا آلاف السياح من شتى أنحاء العالم. حينها سرني جدا رؤية «حائط مبكاه» معلقاٌ عليه بعض قصاصات الكرتون، تمجد كتاباتها الانتفاضة الفلسطينية الأولى وتحتج على القمع الإسرائيلي الوحشي للمنتفضين. يومها التقطت للحائط صورة ومضيت مسرورا بصمت. في المكان نفسه وبعد أكثر من 20 عاما كنا على موعد مع مسيرة صامتة أعقبها معرض للتوابيت تمثل نعوش الشهداء الفلسطينيين الذين سقطوا إثر العدوان الوحشي الأخير على قطاع غزة. رأيت حائط المبكى وقد أصبح فلسطينيا تماما وتغيّر شكله بعض الشيء. اقتربت من الرجل وسألته: هل انت الرجل الذي كان يقف هنا في بداية تسعينيات القرن الفائت؟ أجاب بنعم! في تلك اللحظة تصوّرت هذا الرجل قديسا في زمن التدليس، يخرج من باب الكاتدرائية الأعظم في المانيا يلوّح بعلم فلسطين معلنا انتصارها. فالتر يحمل لافتة مكتوب عليها: «المذابح التي يتعرض لها قطاع غزة منذ 6 سنوات، هي جريمة إبادة شعوب بالتقسيط». سألته لماذا يقوم بذلك ويهب وقته لهذه القضية، أجاب ببساطة: انها قضية حق وضمير!».
إسرائيل ضغطت والمانيا رضخت
ويتابع عاروري: اخبرني هيرمان ان رئيس بلدية تل أبيب التي لها توأمة مع بلدية كولونيا وأثناء زيارة له للكاتدرائية احتج بغضب على «حائط مبكاه الفلسطيني»، ورد عليه فالتر أن فلسطين ستنتصر عاجلا أم آجلا، وأنه يرى أن عودة الفلسطينيين إلى أرضهم، وأيضا إلى تل أبيب هي مسألة وقت فقط.
ويروي العديد من أصدقاء هيرمان كيف استشاط المسؤولون الإسرائيليون غضبا لدى رؤيتهم منصته الواقعة بالقرب من محطة القطارات المركزية الشهيرة، وطلبوا من محافظ المدينة مساعدتهم على إزالتها ورضخ المحافظ للضغوط الإسرائيلية فأرسل الشرطة للحديث مع فالتر أولا لانهاء المشروع بشكل ودي، إلا انه رفض ما حدا بالشرطة إلى استخدام القوة ومصادرة المتعلقات الخاصة بالحائط، ولما رأى والتر أن احتجاجه لا يلقي نفعا لجأ إلى القضاء واضطر لصرف جزء من معاشه المتواضع للدفاع عن فكرته. كما أن الناشرة الألمانية اليهودية ايفيلين هشت غالنسكي وقفت بصفه ودعمته بمنصة جديدة. واستطاع الحصول على حكم قضائي من محكمة العدل العليا بمواصلة مشروعه رغما عن الضغوط الإسرائيلية ورفض محافظ المدينة.
ويروي الدكتور خالد حماد أحد أصدقاء الفقيد كيف أن المشاكل والصعوبات لم تنته إذ أن الأمور أصبحت أكثر سوءا وخاصة بعد استهدافه من قبل تنظيمات شبابية موالية لإسرائيل ومحاولتهم التهجم عليه وسرقة صوره ومتعلقاته الأمر الذي جعله يضطر إلى الوقوف الدائم قرب الموقع لحراسته بالرغم من كبر سنه.
كذلك يتحدث أصدقاؤه أنه بعد فشل المحاولات وملاحظة الشباب المتطرف مدى تعلق فالتر بمعلقاته اتبعوا اسلوبا آخر فهاجمته المانية متطرفة بمطواة كانت في يدها، مما تسبب في جرح غائر رافق يده والتر اليسرى حتى مماته، إلا أن زوار والتر وأصدقاءه قاموا بحمايته واستطاعو امساكها وتسليمها للشرطة.
تكريم فلسطيني
وبمناسبة الاحتفال بالذكرى العشرين لحائط المبكى الفلسطيني وتكريما لجهود فالتر في خدمة القضية الفلسطينية تمت دعوته لمهرجان «يدا بيد» لأجل غزة في مدينة فوبرتال عام 2014 أقامته الجالية الفلسطينية من أجل دعم قطاع غزة وبحضور كل من السفيرة الفلسطينية د. خلود دعيبس وتم منح فالتر هيرمان شهادة تكريم خاصة بجهوده موقعة باسم الجالية الفلسطينية في المانيا. وتحدث المتواجدون هناك كيف بدا التأثر الشديد على فالتر لحظة التكريم، وكيف دمعت عيناه، وقال أنه أَمن دائما بالعدالة وبالقضية الفلسطينية وأن الاحتلال إلى زوال وانه يكرم كل يوم عندما يرى جموع الناس الغفيرة التي تأتي لزيارة منصته فهؤلاء هم بالنسبة له بمثابة الروح في الجسد وهم الذين يمدونه بالطاقة لمواصلة مشروعه «حائط المبكى الفلسطيني». من ناحيته أكد د. خالد حماد أن الجالية الفلسطينية في مدينة كولونيا ستقيم حفل تأبين على روح الفقيد فالتر، وسيرافقه أصدقاؤه ومحبوه حاملين نعشه إلى مثواه الأخير.
«القدس العربي»