الدمج التربوي بين عدالة الإنصاف وواقع التصنيف: في رحاب محاضرة مع البروفيسور تيسير يامين.. ياسر أبوبكر
مدار نيوز، نشر بـ 2025/08/09 الساعة 10:23 صباحًا

في إحدى محاضرات دكتوراه التعليم والتعلم، حيث تُعاد صياغة المفاهيم التربوية لا كما تُدرّس بل كما تُفهم وتُختبر في الواقع، دار نقاش تربوي عميق حول إشكالية الدمج التعليمي (Inclusion)، وذلك خلال محاضرة للبروفيسور تيسير يامين في علم النفس التربوي ، الذي أثار بأسلوبه الجدلي والناقد أسئلة تربوية فلسفية شغلت الذهن وأربكت اليقين.
انطلق الحوار بين طلاب الدكتوراه من طرح واقعي، إذ أبدى عدد منهم تحفظًا على فكرة الدمج الشامل بين الطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة، والطلاب العاديين، بل والموهوبين أيضًا، من منطلق أن لكل فئة احتياجاتها النفسية والمعرفية والبيئية التي يجب احترامها تربويًا، لا أن تُقحم في نظام واحد باسمه الشامل دون تمهيد أو دعم.
تساءل البعض: لماذا لا يُترك الموهوبون مع أنفسهم ليتفوقوا، ويُعطى العاديون حيزهم المتوازن، وتُوفَّر لذوي الاحتياجات رعاية مخصصة تضمن نموهم دون صدمة المقارنة أو خيبة التهميش؟
لكن البروفيسور يامين، الذي جمع بين التجربة الأكاديمية الواسعة والحس الفلسفي العميق، لم يترك هذا الطرح يمر دون مساءلة نقدية. فنبّه إلى أن هذه الدعوة، رغم ظاهرها التربوي، تحمل في طياتها خطرًا كبيرًا: إنها تُعيدنا إلى منطق الفرز الطبقي داخل التعليم، تمامًا كما تفعل بعض الأنظمة السياسية والاقتصادية في تقسيم البشر حسب القوة والمنفعة والإنتاج.
في عمق النقاش، أثار البروفيسور سؤالًا فلسفيًا حادًا:
“أليست ديمقراطية التعليم مرآة لـ ديمقراطية الدولة؟ فإذا كنا نقول إن لكل مواطن حقًّا، أليس من واجبنا أن نوفر عدالة الوصول إلى التعليم وليس فقط وحدة الشكل؟”
هنا بدا جليًا أن الدمج، كفلسفة تربوية، ليس مجرد ترتيب تنظيمي بل موقف أخلاقي من الإنسان وحقوقه. فهو لا يعني ببساطة “وضع جميع الطلاب في فصل واحد”، بل يعني توفير ما يحتاجه كل طالب ليحقق أقصى إمكاناته — سواء كان ذلك في فصل مختلط أو بيئة مخصصة. أي أن جوهر الدمج هو العدالة عبر التفريق، لا المساواة عبر التعميم.
غير أن النقاش لم يغفل الواقع. فقد أجمعت الآراء أن ما يُمارَس تحت اسم الدمج في مجتمعاتنا ومجتمعات كثيرة هو في الغالب دمج شكلي، لا يتعدى نقل الطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة إلى الفصول العادية دون تأهيل المعلمين، ولا تعديل المناهج، ولا تهيئة بيئة صفية حاضنة.
وبهذا، فإن ما يُفترض أنه “دمج” يتحوّل إلى تهميش خفي، أو “إقصاء ناعم” يُعرّض الطالب لسلسلة من الإحباطات النفسية والاجتماعية.
وقد عبّر أحد الطلبة المشاركين عن هذه المأساة بدقة حين قال:
“نحن نحاسب الطالب على ضعف استجابته في بيئة لم تصمَّم له، بل صُمّمت لتكرار السائد ومكافأة المتوسط”.
ولعل أكثر ما أثار الحضور هو نقد البروفيسور يامين لأصحاب القرار التربوي الذين – كما أشار – يُخضِعون فلسفة الدمج للاعتبارات الاقتصادية، متناسين أن الإنسان ليس مشروع ميزانية، وأن العدالة التربوية لا تُقاس بالعائد المالي بل بالكرامة والتمكين.
نقطة أخرى أثيرت في النقاش، وتستحق التوقف عندها، هي الاعتراف بوجود تفاوت طبيعي في القدرات بين الطلاب. فليس من العدالة التربوية أن نُلغي هذا التفاوت باسم المساواة الشكلية. بل يجب أن نحتضنه ونُصمّم منظومتنا التعليمية وفقه: فهناك طالبٌ أقل من المتوسط، وآخر فوقه، وثالث يحتاج إلى مساعدة نوعية، ورابع قد يتفوق على معلمه في بعض المهارات. النظام التربوي العادل لا يُنكر هذا التفاوت، بل يوفر له الاستجابة التربوية المناسبة.
في محاولة لفهم الصورة من زواياها الأكاديمية والبحثية، طلبت من الذكاء الاصطناعي أن يبحث ويقدم لي ملخصًا علميًا لمجمل ما كُتب حول الدمج ومخاطره، فكانت إجابته حاسمة :
“الدمج – من حيث الفكرة – يمثل نزعة إنسانية نبيلة، لكنه يُمارَس في كثير من الأنظمة كوسيلة لخفض التكاليف، لا كاستراتيجية تربوية عادلة”.
“الأدلة البحثية لا تؤكد وجود فائدة أكاديمية حقيقية للطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة في الفصول العادية، بل تشير إلى مشكلات في التحصيل، والتنمر، والعزلة النفسية، وغياب التخطيط الفردي (IEP)، وافتقار المعلمين للتأهيل”.
في ضوء هذا النقاش، يتبيّن أن الدمج التربوي الحقيقي ليس مجرد خيار تنظيمي، بل هو اختبار حقيقي لقدرتنا على احترام الإنسان المختلف، وتمكينه، والاعتراف بحقه في التعلّم والازدهار داخل بيئة تناسبه لا تضعفه.
نعم، من حقنا أن ننتقد الدمج حين يكون مجرد ديكور إداري، لكن من واجبنا أن ندافع عنه حين يكون موقفًا منصفًا في جوهره، شرط أن يُصمَّم ويُنفَّذ بصدق واحتراف وتكامل بين الموارد، والمعلمين، والمناهج، والسياسات.
وفي النهاية، ليس السؤال هنا : هل ندمج الجميع؟
بل السؤال الأعمق: هل نحترم الاختلاف ونُحسن استقباله تربويًا؟
وذاك هو التحدي الأكبر.
—————————————-
** تم تحرير هذا المقال اعتمادًا على حوار أكاديمي حي، ومراجعة بحثية دقيقة، واستشارة الذكاء الاصطناعي كأداة تحليلية داعمة.
رابط قصير:
https://madar.news/?p=343206