“الكوابيس لا تنتهي عند بوابة السجن” … دراسة نوعية تكشف المعاناة الصامتة للأسرى الفلسطينيين المحررين
مدار نيوز \ تحقيق خاص :
“أحلم كل ليلة أنني ما زلت مكبلًا… أستيقظ وأنا أصرخ، لا أعرف السبب… جسدي يرتجف كلما سمعت صوت المفاتيح”… هكذا يصف أحد الأسرى الفلسطينيين حياته بعد خروجه من السجن. لا يتحدث عن التعذيب داخل الزنزانة، بل عن سجنٍ داخلي لا تُفتح له الأبواب.
في دراسة أكاديمية نوعية عميقة، حملت عنوان:
“الاعتقال بعد الإفراج: النوم، والألم، وفرط اليقظة لدى الأسرى الفلسطينيين المحررين”
يُسلَّط الضوء على بُعدٍ مهمل في التناول الحقوقي والإعلامي، وهو: ماذا يحدث للأسير الفلسطيني بعد الإفراج؟ وهل تنتهي آثار الاعتقال عند عتبة الزنزانة الأخيرة؟
________________________________________
دراسة تنبض بالشهادات.. وتتحدث بلغة الجسد والروح
شملت الدراسة 20 أسيرًا محررًا من الضفة الغربية، أُفرج عنهم خلال صفقات تبادل في عامي 2023 و2025، وأجريت معهم مقابلات شبه منظمة حول حياتهم بعد التحرر. النتائج لم تكن صادمة فحسب، بل مدمّرة إنسانيًا.
ظهرت سبع محاورمتكررة بين جميع المشاركين، أبرزها:
• حرمان النوم المنهجي خلال الاعتقال: مصابيح لا تنطفئ، ضوضاء مقصودة، رشّ بالماء البارد، وكل ذلك لتفكيك الإيقاع العصبي والنفسي للنوم.
• الكوابيس المتكررة بعد الإفراج، التي تتضمن تفاصيل التعذيب، الصراخ، والملاحقة، وتجعل من النوم معركةً يومية.
• فرط اليقظة العصبي: حيث يعيش المحرر في حالة استعداد دائم للخطر، يقفز عند سماع صوت المفاتيح، أو صراخ طفل، أو طرق باب.
• ألم جسدي مزمن لا يُفسَّر طبيًا، لكنه متجذر في الذاكرة الجسدية للعنف.
• تفكك العلاقات الأسرية: كثيرون لم يتمكنوا من استعادة دورهم كآباء أو أزواج، وبعضهم أصبح غريبًا في بيته.
• رُهاب الأربعاء: خوف دوري متجدد يرتبط بيوم المداهمات الليلية، حيث يتجدد التوتر أسبوعيًا.
• المقاومة الثقافية داخل السجن (كتابة الشعر، حفظ النصوص، الدراسة الجماعية) بوصفها أداة بقاء نفسي وكرامة.
________________________________________
خبير نفسي وتربوي: “نظام السجن الإسرائيلي لا يستهدف الجسد فقط… بل يُفكك الوعي الفلسطيني”
في تحليل نفسي تربوي خاص لأحد المختصين في الصحة النفسية في سياقات الصراع، أكّد أن الدراسة تقدم أدلة نوعية دامغة على الطبيعة المركبة والتعمدية للعنف الإسرائيلي داخل السجون.
“نحن لا نتحدث فقط عن أرق مزمن أو كوابيس عرضية. نحن أمام ما يُعرف بـ اضطراب ما بعد الصدمة المعقد (C-PTSD)، الناتج عن اعتداء طويل المدى على النفس، الجسد، اللغة، والهوية. الاحتلال هنا لا يعذّب من أجل التحقيق، بل من أجل التفكيك النفسي والرمزي للإنسان الفلسطيني.”
“المؤلم أكثر، أن هذا التفكك لا يجد دعمًا بعد التحرر. بل يجد نفسه في سجنٍ آخر: عجز مؤسسي عن إعادة التأهيل، ملاحقة سياسية، وصمت اجتماعي تجاه ألمه غير المرئي.”
________________________________________
أين المجتمع الدولي؟ وأين الطب النفسي والحقوقي العالمي؟
إن ما تكشفه هذه الدراسة لا يُمكن اعتباره حالة معزولة. بل هو نموذج ممنهج لانتهاك صارخ لحقوق الإنسان، يستهدف مئات بل آلاف الفلسطينيين، ويُمارس باسم “الأمن”.
المنظومة الإسرائيلية تُنتج نوعًا خاصًا من “الاعتقال الممتد” الذي يبدأ داخل الزنزانة ولا ينتهي عند الخروج منها. الأسير لا يعود فقط بعاهة جسدية، بل بحمولة من الصدمة، والوصمة، والتشظي العاطفي والاجتماعي.
فأين هي المنظمات الدولية المختصة بالصحة النفسية وحقوق الأسرى؟
أين هي مراكز البحوث الطبية العالمية من توثيق هذا النمط من العنف ما بعد الكولونيالي؟
أين منظومة العدالة الدولية من تعقب هذه الممارسات كـ جرائم نفسية طويلة الأمد؟
________________________________________
المقاومة كعلاج… والكرامة كحق لا يُنسى
في ظل هذا الواقع القاسي، برزت المقاومة الثقافية كأداة علاجية كما توثق الدراسة. فالشعر، والقراءة، والذاكرة الجمعية، ليست هوايات داخل المعتقل، بل هي مضادات للعطب النفسي، ومشاريع لبناء المعنى في وجه العبث.
توصي الدراسة بضرورة تطوير برامج تأهيل نفسي جماعي، وتضمين الأسرى المحررين في سياسات إعادة بناء اجتماعية عادلة، مع الضغط الدولي لإنهاء الاعتقال الإداري، والمداهمات الليلية، وإعادة الاعتقال التعسفي.
________________________________________
خاتمة
هذه الدراسة ليست ورقة علمية فقط، بل وثيقة أخلاقية وصرخة إنسانية، تكشف أن سجون الاحتلال لا تُبنى من الحديد فقط، بل من سياسات تفتيت الذات.
والأسرى الفلسطينيون، وإن خرجوا من الزنازين، ما زالوا بحاجة إلى تحرير داخلي، من كوابيس زرعتها بنادق المحتل، ومن صمت عالمي أكثر قسوة من القضبان.
رابط قصير:
https://madar.news/?p=340824



