الشريط الأخباري

تلاميذ الأمس في صفوف الغد: من يخطط للتعليم؟ ياسر ابو بكر

مدار نيوز، نشر بـ 2025/07/29 الساعة 3:52 مساءً

مدار نيوز \

في زمن التحوّلات الكبرى التي تطال كل مناحي الحياة، يتقدّم التعليم ليتحمّل عبء التحوّل لا بوصفه قطاعًا خِدميًا، بل باعتباره محرّكًا رئيسيًا لتشكيل وعي الأفراد، وبناء رأس المال المعرفي للمجتمعات. لم يعد مقبولًا اليوم أن تُدار منظومات التعليم بالعقلية ذاتها التي صاغت التعليم في القرن الماضي، خصوصًا في ظل ما يفرضه الواقع الرقمي من متطلبات معقدة وجديدة. ففي حين تتسابق نظم التعليم المتقدمة لإعادة تصميم مناهجها وتدريب معلميها وتفكيك هياكلها القديمة لبناء بيئات تعليمية قائمة على المرونة والإبداع، ما زالت منظومة التربية في فلسطين تتعثر في مواءمة الحدّ الأدنى من هذه التحولات.

الواقع العالمي للتعليم يشير إلى تحول جذري في فلسفة التخطيط التربوي، حيث لم يعد يركّز فقط على نقل المعرفة، بل على تمكين المتعلم من إنتاجها، وإعادة تشكيلها، وتوظيفها في سياقات واقعية. لذلك باتت المهارات مثل التفكير النقدي، والتعلم الذاتي، والعمل التعاوني، وإدارة المعرفة، تتقدم على حفظ المحتوى أو اجتياز الامتحانات الموحّدة. وتأتي هذه التحولات استجابة لاقتصاد المعرفة، وسوق عمل سريع التقلب، ومجتمع شبكي لا يعترف بالجمود ولا يرحم البُطء. في المقابل، لا تزال المدرسة الفلسطينية تدار وفق معايير تقليدية، يغيب عنها إلى حد كبير تحليل الحاجات، واستشراف المستقبل، والاستفادة الجادة من النظريات التربوية في تصميم العملية التعليمية.

تُبرز التجارب الحديثة أهمية فهم طبيعة المعرفة باعتبارها ليست حقائق جامدة تُلقّن، بل بناء تفاعلي يتشكّل عبر التجريب والحوار والتأمل. وهو ما انعكس على دور المعلم في الأنظمة المتقدمة؛ فلم يعد ناقلًا للمعلومة، بل ميسّرًا للتعلم، ومصممًا للبيئة الصفية، وباحثًا دائمًا في ممارساته. بينما في السياق الفلسطيني، لا يزال كثير من المعلمين يفتقرون إلى هذا التصور البنائي للتعليم، نتيجة قصور في التدريب، وتراكم السياسات الامتحانية التي تقتل روح التجريب، وتعيد إنتاج الطالب “المطيع” بدل الطالب “المُبادر”.

وفي الجامعات، تتجه كثير من المؤسسات عالميًا إلى اعتماد نماذج تدريس تفاعلية مثل التعلم بالمشروعات، والتعلم القائم على المشكلات، والتعلم التعاوني، انطلاقًا من قناعة أن المحاضرة التقليدية لم تعد تلبي احتياجات الطلبة المتنوعين، ولا تسهم في تنمية مهاراتهم المستقبلية. هذه النماذج لم تعد رفاهية تربوية، بل ضرورة تُفرضها التحديات الرقمية ومتطلبات السوق. أما في جامعاتنا، فإن تبنّي هذه النماذج لا يزال خجولًا، وغالبًا ما يُترك لاجتهادات فردية، دون إطار مؤسسي واضح، ودون تطوير جاد في أدوات التقييم أو البنية التحتية الرقمية.

وفي حين يُبنى التصميم التربوي الحديث على النظريات التربوية المعاصرة – من البنائية إلى الترابطية – نجد أن كثيرًا من المناهج الفلسطينية لا تزال أسيرة المنهج السلوكي القائم على الاستجابة، دون وعي فلسفي بالتحولات التي طرأت على طبيعة المعرفة والطالب والعالم. حتى عندما تُستخدم التكنولوجيا، فإنها تُدمج أحيانًا كأداة تجميلية، لا كمكوّن معرفي يعيد صياغة العلاقة بين الطالب والمعرفة.

المفارقة الكبرى أن فلسطين، رغم معاناتها، تملك واحدة من أعلى نسب التعليم في المنطقة، وأحد أكثر الشعوب تعطشًا للمعرفة، لكنها تعاني من فجوة بين ما يتلقاه الطالب وبين ما يحتاجه لمواجهة الواقع. فهل يُعقل أن نظامًا يعيش في قلب صراع وجودي لا يربّي أبناءه على مهارات المواجهة، والتحليل، والنقد، والتفكير الاستراتيجي؟ وهل يُعقل أن يكون المشروع التعليمي الوطني في واد، واحتياجات المجتمع الفلسطيني في واد آخر؟

المرحلة تستدعي إعادة تعريف فلسفة التربية الفلسطينية. نحن بحاجة إلى ثورة تعليمية لا تبدأ من تغيير الكتاب المدرسي فقط، بل من إعادة تشكيل ذهنية المعلّم، وبنية المدرسة، وغرض التعليم نفسه. نحن بحاجة إلى تعليم لا يدرّب على النجاح في الامتحان، بل يُعدّ للحياة، ويصقل الوعي، ويحرّر العقل، ويُنتج مواطنًا فلسطينيًا مثقفًا، وفاعلًا، ومشاركًا، لا متلقّيًا ساكنًا.

لقد آن الأوان لأن تدرك المؤسسة التعليمية الفلسطينية أنها ليست جزيرة معزولة، وأن ما يحدث في العالم من تحولات هو رياح ستمرّ علينا شئنا أم أبينا. إن لم نُعد العُدّة، فإننا لا نُضيّع فقط فرص النهوض، بل نُجهض أيضًا إمكانية الصمود. والتعليم، كما التاريخ، لا ينتظر أحدًا.

رابط قصير:
https://madar.news/?p=342553

هذا المقال يعبر عن رأي صاحبه فقط.

تعليقات

آخر الأخبار