*`جسر الكرامة… جسر الذلّ المشترك وخطاب الرثاء المكرور`* *ياسر أبو بكر*

نابلس \ مدار نيوز \
في كلّ صيفٍ فلسطينيّ، يتكرّر المشهد نفسه على جسر “الكرامة”:
حشودٌ مسحوقة تجرّ حقائبها في صمتٍ موجوع، طوابير امتدادها أبعد من المدى، عرق ودموع وخوف وحالات إغماء، إذ يغدو الجسر مصيدة إذلال جماعيّ مصمَّمة هندسيًّا كي تعيد للفلسطيني ألفَ مرة شعوره بالعجز والهامشية. هذا الجسر لم يعد معبرًا حدوديًا بقدر ما هو مساحة متواصلة لإعادة إنتاج الوجع، وإدامة التوتر المزمن بين الداخل والخارج، بين الوطن والمنفى.
لكن، في مقابل هذا الواقع الفظيع، يظهر الخطاب الذي يكتبه بعض المثقفين والكتّاب، مثل نصّ د. عدنان ملحم، وكأنّه طقس بكائياتٍ موسمية، يُعيد توصيف الجرح بمفرداتٍ مألوفة دون أن يقترب فعليًا من اقتراح الحلول الجذرية أو مساءلة السلطة الفلسطينية والأردنية بكل جرأة ووضوح.
دعونا نفكّك هذا الخطاب ونُعمل عليه منهج تحليل الخطاب النقدي، الذي لا يكتفي بتسجيل اللغة، بل يفضح كيف تُنتج الخطابات حالةً من التطبيع مع المعاناة، بل أحيانًا تتحوّل إلى وسيلة لامتصاص غضب الناس.
أولًا: خطاب وصف الأزمة… دون مساءلة البُنى المنتجة لها
يركّز الكاتب على استدعاء معجم الألم:
> “الخوف، القهر، الذلّ، العذابات، الصمت، الموت، الانتظار”
وهي كلها كلمات صادقة تعبر عن حال الناس، لكنها تتحوّل في الخطاب إلى حجاب لغوي يُغرق المتلقّي في التماهي العاطفي، دون أن يطال مباشرة بنية السلطة الفلسطينية التي تتحمل جزءًا أساسيًا من تفاقم الأزمة عبر التواطؤ أو العجز أو قصور الكفاءة.
تحليل الخطاب النقدي يعلّمنا أن الوصف لا يساوي التحليل، وأن التكرار المفرط للغة المأساة يخفّض الحافزية على التغيير، ويجعل التذمر جزءًا من العادة اليومية، بينما لا ينشأ عنه ضغط شعبي منظّم.
ثانيًا: خطاب التمجيد الانتقائي للنخب الرسمية
في خضم حديثه، يُهرع الكاتب للإشادة بوزير الداخلية الفلسطيني والأردني، وكأن هذه الزيارات البروتوكولية لجسر القهر حدثٌ خارقٌ للعادة، علمًا أن تلك الأزمة مستمرة منذ سنوات، وذروة فشلها كانت توقّعها مع بداية موسم الصيف دون تحرّك استباقي.
هنا تحديدًا يظهر انحياز الخطاب إلى إضفاء الشرعية الرمزية على أداء السلطة، عبر منحها وسام “التعاطف”، دون مساءلتها عن الخطوات الفعلية والقرارات الجريئة المطلوبة. هذه تقنيّة خطابيّة مألوفة: تطريز صورة “المسؤول القريب من الناس”، في حين تُغفل حقيقة أن النظام الإداري والبيروقراطي نفسه هو أحد أسباب المعاناة.
ثالثًا: خطاب إرجاع المسؤولية إلى “الآخر الغامض”
يكثر النص من طرح أسئلة بلاغية مشروعة عن نظام الـVIP وضريبة المغادرة (“من يملكه؟ أين تذهب الأرباح؟ من شيخ التهريب؟”)، لكن الكاتب يكتفي بإلقائها في الهواء دون المطالبة بتشكيل لجنة تحقيق رسمية أو دعوة صريحة لفتح ملفات الفساد والسمسرة.
في خطاب كهذا، يصبح “الغامض” شماعةً تحمي كل البنى المتورطة من المساءلة المباشرة. يُفضّل الكاتب إبقاء هذا الغامض ضبابيًا، ليتجنّب الاشتباك مع جهات قوية داخل النظامين الفلسطيني والأردني.
رابعًا: خطاب “الرثاء الجماعي” كأداة تبرئة
ينتهي النص بخطاب وجداني عالي النبرة:
> “يا شعبي العظيم… وحدك تقهر… وحدك تنزف…”
وهو خطابٌ يضمر في عمقه إبراءً خفيًا لكل البنى السياسية والاجتماعية من مسؤوليتها التاريخية، عبر إعلاء بطولة الشعب وحده، وتركه يواجه مصيره منفردًا، وكأن المأساة قدر محتوم لا سياسة وراءه.
هنا تكمن أخطر تقنيات الخطاب: تجميل العجز الجماعي من خلال تكرار سردية “الوحدة البطولية”، فتتحوّل الكتابة إلى طقس اعتراف أدبي، لا إلى أداة تحريض شعبي أو مساءلة منهجية.
نقد الواقع لا الخطاب فقط
ما يحدث على الجسر فضيحة كاملة الأركان:
نظام VIP سرطاني قائم على الطبقية والجباية.
شركات النقل المحتكرة (باصات “جت”) التي تحالفت مع سماسرة السوق السوداء.
غياب التخطيط المسبق لتفادي الأزمات الموسمية.
تساهل السلطات الأردنية والفلسطينية في رقابة حركة التهريب والاستغلال.
هذه كلها حقائق صلبة لا يكفي معها الرثاء، بل تحتاج:
تحقيقًا على أعلى المستويات شفافًا في منظومة إدارة الجسر.
إنهاء الامتيازات الاحتكارية والجبايات غير القانونية.
تطوير منصة حجز إلكتروني عادلة شفافة.
فرض الرقابة الفورية على التهريب والسمسرة.
كلمة أخيرة:
إن كانت كتابة د. عدنان ملحم تُعدّ شهادة حيّة على وجع الناس، فإنها تظل في جانبٍ منها نصًا تبريريًا يهرب من قول كلمة حق صريحة ضدّ كل المتورطين في هذه المأساة.
الكتابة النقدية الحقيقية لا تكتفي بالبكاء، بل ترفع أصبع الاتهام بوجه الجميع: الاحتلال، السلطة، السوق السوداء، والفساد الذي ينخر عظام مؤسساتنا.
وإلى أن يحدث ذلك، سيظل جسر الكرامة جسر الذلّ، وستظل نصوصنا الجميلة أحيانًا مجرد حائط مبكى آخر…
رابط قصير:
https://madar.news/?p=341560