“من السجن المنهجي إلى التحرير الفكري: قراءة نقدية لمقال نسيم قبها حول تدجين التعليم العربي” ياسر أبوبكر

مدار نيوز \
يقدّم مقال نسيم قبها حول “تدجين التعليم في العالم العربي” قراءة نقدية جريئة لمآلات المنظومة التعليمية في سياقات غير مستقرة سياسيًا، إذ يربط بين تراجع جودة التعليم وسيطرة البنية السياسية على صياغة المناهج وأشكال الممارسة الصفية.
تبرز قوة المقال في وضوح أطروحته المركزية، المتمثلة في تحوّل المدرسة من فضاء لتحرير الفكر إلى أداة لإعادة إنتاج أنماط الطاعة والامتثال. هذه الرؤية تنسجم إلى حد كبير مع منظور النظرية النقدية في التربية، كما صاغها باولو فريري، الذي اعتبر أن التعليم البنكي – القائم على إيداع المعلومات في عقول المتعلمين – يكرّس الخضوع ويحرمهم من وعيهم النقدي.
كما يمتاز المقال بلغة حية وصور بلاغية مؤثرة، مثل وصف المدرسة بـ”السجن المنهجي” واعتبار التدجين “جريمة ضد المستقبل”، وهو ما يمنح النص بعدًا تحريضيًا يحفّز القارئ على التفكير في ضرورة التغيير.
مع ذلك، يكشف تحليل المقال عن بعض نقاط الضعف التي تحد من أثره الإقناعي على صناع القرار أو الأوساط الأكاديمية.
فالطرح، رغم وضوحه، يفتقر إلى بيانات إحصائية أو شواهد بحثية تدعم الاستنتاجات، ما يجعله أقرب إلى الخطاب التحليلي الانطباعي.
كما أن الطابع الانفعالي في بعض المقاطع يطغى على التحليل البنيوي المتعمق الذي يمكن أن يقدمه النص في تفكيك آليات التدجين، مثل علاقة التمويل التعليمي بالسياسات المركزية أو دور الثقافة المؤسسية في تقييد حرية المعلم.
إضافة إلى ذلك، لا يميز المقال بين تجارب الدول العربية المختلفة، مما يضعها جميعًا في سلة واحدة، رغم أن هناك نماذج إصلاحية ملهمة مثل تجربة تونس في تحديث مناهج الفلسفة أو التجربة المغربية في إدماج التفكير النقدي عبر الأنشطة المندمجة.
لتعزيز فعالية الطرح، يمكن استلهام ما تقدمه النظرية البنائية عند بياجيه وفيغوتسكي التي تؤكد أن التعلم يحدث عبر التفاعل النشط وحل المشكلات في بيئات اجتماعية داعمة.
في المقابل، واقع التعليم العربي – كما يصفه الكاتب – يظل أسيرًا لنماذج التلقين التي لا تمنح الطالب دور الفاعل في بناء المعرفة. أمثلة من دول مثل فنلندا وسنغافورة تظهر أن إصلاح المناهج ليشمل التفكير الإبداعي، مع إصلاح أساليب التقييم لتقيس الفهم والتطبيق لا الحفظ، كان له أثر مباشر في رفع مؤشرات الابتكار ومهارات القرن الحادي والعشرين.
كما أن إدماج استراتيجيات التعلم التعاوني، التي دعا إليها جونسون وجونسون في إطار التعلم التعاوني البنائي، يمكن أن يعيد تشكيل ثقافة الصف العربي لتصبح أكثر انفتاحًا على الحوار والسؤال.
ومن زاوية عملية، فإن الدعوة إلى “ثورة تربوية” ينبغي أن تتحول إلى خارطة طريق واضحة، تشمل مراجعة شاملة للمناهج بحيث تدرج قضايا المجتمع المعاصرة، وتدريب المعلمين على أساليب التعليم النشط، وتبني أنظمة تقييم متنوعة تجمع بين المشاريع، ودراسات الحالة، والتقويم المستمر.
كما يمكن تفعيل الشراكة مع المجتمع المدني والمؤسسات الثقافية لخلق بيئة تعليمية ممتدة خارج الصف، على غرار مبادرات “المدارس المجتمعية” التي نجحت في مصر والأردن في ربط التعليم بحاجات المجتمع المحلي.
في ضوء ما سبق، فإن مقال نسيم قبها يشكل صوتًا نقديًا مهمًا في النقاش حول مستقبل التعليم العربي، ويستمد قيمته من وضوح رسالته وشجاعته في تسمية المشكلات الجوهرية.
غير أن تحويل هذه الرؤية إلى مشروع إصلاحي فاعل يتطلب الانتقال من النقد العام إلى بناء استراتيجية إصلاحية مستندة إلى نظريات تربوية راسخة وتجارب ميدانية مثبتة، مع تقديم نماذج قابلة للتطبيق تراعي خصوصية كل سياق وواقعه السياسي والاجتماعي. وبدون هذا الانتقال، سيظل التحذير من “تدجين التعليم” قائمًا، لكن من دون أن يتحول إلى قوة تغيير حقيقية.
رابط قصير:
https://madar.news/?p=343553