نصف شيكل،خسيس عليَ جليل عليه بقلم : بيان إسعيد.
ارتديت معطفي ذو الخمس مائة شيقلاً،الذي أبدو فيه كشابة فاحشة الثراء و من عائلة فوقية برجوازية،مؤكدة الصورة العامة بجزمتي الجلدية السوداء،الي يزينها دبابيس مدببة تمنع الناس من الدوس عليها عمداً أو من غير قصد.
أتجوّل بشوارع رام الله الباردة،الجوّ يوحي بأمطار الخير آتية،العصافيرُ كانت قد اختبأت من شدة البرد،واستشعاراً لمطرٍ قد يعرقِلُ طيرانها،رائحة عربات القهوة تستوقفني كل بضع أمتار ،أشتهيها أينما ألتفت، أحتارُ من أي عربة أتذوق القهوة التي قد تجعلُ يومي مميزاً، فاختار كل يومٍ من واحدة حتى لا أظلم نفسي ولا البائعين.
طبطب على كتفي طفلٌ لا يزيد عمره عن العشر سنوات ، يحمل بين ثنايا يديه اللتين إزرقتا من شدة البرد عدة أوراق طُبع عليها آية الكرسي، و شفتاه الزرقاوتان ايضاً ترددان “الله يجوزك،الله يستر عليكِ،الله يعطيكِ الي بتحبّيه”،نعم،أراد أن يبيعني آية الكرسي.
نظرت مطولاً في عينيه ،لبسني يأس مخيف،سألته كم سعرها؟،،٢ شيكل قال لي،إستأذنته أن يدعو لي بأن أتزوج من أُحب،وأن يوفقني رب العباد و يتولاني برحمته،كان ذكياً،دعى لي وهو يتحاذق و يمثل بأنه متأثر راسماً على وجهه تعابير حزنٍ عميقة،وكأنه كان يحتاج أن يمثلها.
فتحتُ حقيبتي وتناولت منها كمشة”فرايط”،عددتهم،تسعة شواقل،سألته اذا كان يحمل فكّة،ضحك بحذاقة ايضاً و سألني كم احتاج؟ نصف شيقلاً اجبته،كان هذا النصف شيقلاً متمماً لأجار طريقي من رام الله إلى بيرزيت،عملية حسابية بسيطة،املك تسعة شواقل،اعطيته خمسة،اعاد لي نصف،أضيفهم الى الاربعة،يصبحون اربعة و نصف ،حسناً هكذا اصل الى الجامعة دون ان اصرف من ال”ماسك” الذي كان بحوزتي.
“نفسي بالنُص تبعك”، رافقني خلال طريق طويلة يرددها متشبثاً بمعطفي،”نفسي بالنُص تبعك”،حتى وصلنا الى مُجمّع تكسيات بيرزيت،”إنتَ طَمّاع”،أجبته، من ثم أبعدته،وانطلقت إلى الجامعة. “ضل راكب مدفعش”،أسمع هذه الجملة يومياً،فعادتي ان ادفع للسائق وأنا أهمُّ بالنزول من السيارة،”تخافش مش ناصبة عليك”،فتحتُ حقيبة يدي،مددت أناملي الدافئة الى سحّاب شنتتي،مهلاً هناك خطأ،أربعة شواكل،استغرقني الموضوع اكثر من خمسة دقائق وأنا أفتّشُ على نصف الشيكل الذي عاندتُ بائع القرآن عليه،هل يُعقل ان يكون قد أخده خلسة؟ لا،انا لستُ مغفّلة،وهو يبيع اية الكرسي،لن يسرق. “اخذت نفساَ عميق،إستسلمت و ناولته من “الماسك” و مضيت الى محاضرتي “مزبهلة”.
تأثرتُ جداً بالموقف،حتّى أصبحت أتذكر ذاك الطفل باستمرار،بعد مرور اسبوع و خلال تصفحي المعتاد للفيسبوك، باغتني خبر ” طفل يموت من البرد خلال نومه في احدى عمارات رام الله “، استوقفتني الصورة للطفـل، نعم انه هو، هو بذاته!, كان قد سرقه الموت نتيجة جلطة قلبية سببها البرد الشديد،وجدوه في احدى عمارات رام الله ملقحاً على الأرض،بثيابٍ رثّة لا تقي من برد ديسمبر شيء.
تطفلت عليه بعد ان اخذته المنية،عرفت انه كان يُعيل خمسة اخوة و امه الأرملة،حمل ثقيل على أكتاف هذا الطفل الذي عاش طفولته يجول في شوارع رام الله. استوقفني النصف شيكل, هو مقدار خسيس عليً جليل على الطفل, شاء الله ان يكون سبب في كرهي لنفسي،فهو فارق أهله وفارق الحياة وأنا لا أزال أتذكر النصف شيكل.
رابط قصير:
https://madar.news/?p=19284