ومضة الوفاء في عيون المتعبين: عناق الذاكرة بعد ربع قرن. ياسر أبوبكر
نابلس \ مدار نيوز
يا لهذا الزمن الذي يمضي فلا يرحل، يتوارى في حنايا الذاكرة ثم يفاجئنا في لحظة عابرة، كأنما يختبئ عمداً ليوقظ فينا ذلك الشجن القديم.
ثلاثة وعشرون عاماً امتدت بيني وبين جامعة النجاح الوطنية، ثلاثة وعشرون عاماً من الغياب القسري وراء جدران الأسر، حيث تمضي الأيام مثقلةً بالأحلام المؤجلة والوجوه الغائبة، حتى تظن أن الماضي قد ذوى وذابت ملامحه في عتمة النسيان.
ثم التقيتهم ، كان منهم : جواد أبو مراد…
ذلك السائق الطيب، الموظف الهادئ الذي كان ذات يوم جزءاً من نبض الحرم الجامعي، جزءاً من صباحاتنا المزدحمة بالأنشطة والبيانات والنقاشات الطويلة. لم أعرفه حين هبّ نحوي يحتويني بذراعيه، ولم تتعرّف ذاكرتي عليه إلا حين تداركتها الرعشة: رعشة صورة قديمة سحبها من هاتفه كمن يستخرج كنزاً دفيناً.
هناك، في تلك الصورة المصفرة بقدمها، وقفنا معاً قبل ربع قرن، شاباً متوثباً كنتُ، أحمل همّ الحركة الطلابية على كتفي ، وهو بوجهه الوادع وابتسامته الصافية ركنٌ من أركان الجامعة، من أولئك الناس الذين لا يدرك أحد مدى اتساع قلوبهم إلا حين يبتعد عنهم طويلاً.
كم كانت عيناه تفضحان ما وُسِدَ في صدره من محبة وشوق! نظراته المتعبة كانت تقول ما عجز اللسان عن بسطه: أننا لا نغيب عن القلوب مهما ابتعدنا، وأن الكلمة الطيبة لا تضيع، بل تنبت في الأرواح وتكبر في غيابنا دون أن ندري.
للحظة، شعرت أنّ كل السنين الثقيلة التي مضت في زنازين الاحتلال قد انزاحت قليلاً عن كتفي، كأنني استعدت شيئاً من بهجة تلك الأيام التي كان نشاطنا الطلابي فيها يملأ الممرات، وتلك الصباحات التي كانت فيها تحية بسيطة من جواد أو من أحد الزملاء تكفي كي نكمل اليوم برضا.
هؤلاء العاملون في الجامعات — بساطتهم، قلوبهم المشرعة بالصدق، عرقهم الذي لا تراه إلا حين تغيب — هم الذاكرة الحقيقية للمكان. هم الجسور التي تصلنا بأنفسنا القديمة حين نضيع.
إلى جواد أبو مراد وكل أولئك الذين لم يدّعوا بطولة ولا سطوة، لكنهم ظلّوا هنا يمدّوننا بالمحبة الخالصة: أنتم تستحقون منّا التقدير الذي لا يذبل، والامتنان الذي لا تحدّه السنين. أنتم القلوب الصافية التي إذا استقبلتك بعد طول غياب، أعادتك إلى نفسك الأولى، وذكّرتك أنّ الإنسان لا يُعرف بمقامه بل بما يتركه في أرواح الآخرين.
رابط قصير:
https://madar.news/?p=341389
