الشريط الأخباري

نقد تربوي للمنظومة العربية في ضوء التجربة الفلسطينية نحو تعليم تحويلي مقاوم ..ياسر أبوبكر

مدار نيوز، نشر بـ 2025/08/05 الساعة 12:35 مساءً

مدار نيوز \

يواجه التعليم في العالم العربي أزمة بنيوية عميقة، تتعدى المظاهر التقنية والإدارية لتطال جوهر الفلسفة التربوية ذاتها. فما زالت السياسات التعليمية تُبنى على أسس تقليدية تركّز على نقل المعرفة بدلًا من بنائها، وتُعلي من شأن الامتحان على حساب التفكير، وتُقيّم الأداء بمعايير كمية تُقصي الفروق الفردية وتهمّش السياقات الاجتماعية والنفسية للمتعلمين. هذه الإشكاليات تتجلى بوضوح في الأنظمة التعليمية التي تفتقر إلى رؤية فلسفية واضحة توازن بين الهوية الثقافية والتحولات العالمية.

في السياق الفلسطيني، تزداد تعقيدات الواقع التربوي بفعل الاحتلال الذي يفرض بيئة قسرية تحول دون تحقق شروط التعلم الطبيعية. فالطالب الفلسطيني يُضطر إلى التعلم في ظل انقطاع الكهرباء، وغياب الأمن، والتهديد المستمر بالاعتقال أو التهجير، بينما تظل المناهج تعكس افتراضات بيئة مدرسية مثالية غير موجودة. كما يعاني التعليم الفلسطيني من تدخلات سياسية في صياغة المناهج، ومن ضعف الاستثمار في تنمية المعلم، وانعدام العدالة في توزيع الموارد بين المناطق الجغرافية.

البيئة التعليمية العربية، في المجمل، تُبنى وفق نموذج يتجاهل البُعد الاجتماعي–العاطفي للطالب، ويختزل قدراته في مستوى التحصيل المعرفي التقليدي، حيث يتم النظر الى المتعلم كمتلق سلبي لا يمنح مساحة للمشاركة الفاعلة ، وتُغيب أدوات التقويم البديلة التي تراعي النماء المتكامل للفرد، مثل التقييم البنائي، البروفايل الشخصي، ومهام الأداء الواقعي. كما تُستخدم التكنولوجيا في الغالب بصورة شكلية، دون إدماج فعلي لها في بناء مهارات التفكير النقدي أو تعزيزالتعلم الذاتي.

في هذا السياق، تبرز الحاجة إلى تبني مقاربة التعليم التحويلي، الذي لا يكتفي بنقل المعرفة، بل يسعى إلى إحداث تغيير جذري في بنية تفكير المتعلم وهويته وموقعه الاجتماعي. التعليم التحويلي يُحرر المتعلم من التلقي السلبي، ويدعوه إلى نقد المسلمات، والانخراط في حوارات بنّاءة، وفهم الذات في علاقتها بالعالم. ويرتبط هذا النموذج بقوة مع التعلم المنظم ذاتيًا (Self-Regulated Learning – SRL)، الذي يُمكّن المتعلم من إدارة جهده العقلي والانفعالي وتخطيط تعلمه وتقييمه بصورة مستقلة.

رغم أن كلا المفهومين مستقلان نظريًا، إلا أن بينهما تكاملًا عميقًا. فالتعليم التحويلي يحفّز على إعادة تشكيل القناعات والتصورات من خلال التأمل والحوار، بينما يوفّر التعلم المنظم ذاتيًا الأدوات اللازمة لتحقيق هذا التحوّل، من خلال مهارات التنظيم الذاتي، التقييم، الضبط العاطفي، والوعي بالعمليات الذهنية.

يدعم هذا التكاملَ أطرٌ نظريةٌ راسخة: فالنظرية البنائية تؤكد تفاعل المعرفة السابقة مع الخبرات الجديدة، بينما تربط النظرية الإنسانية بين التعلم وتحقيق الذات في بيئة آمنة. وتقدم نظرية باولو فريري التعليم كأداة للتحرر من خلال الحوار النقدي، فيما تُشكّل ما وراء المعرفة الأساس المعرفي للتعلم الذاتي المنظم.

في ظل الاحتلال، الإقصاء الاجتماعي، وتسييس المناهج، يصبح التعليم التحويلي وسيلة لتحرير الذات من التبعية الإدراكية، وإعادة تشكيل الهوية. أما التعلم المنظم ذاتيا ، فهو ضرورة استراتيجية في بيئات القهر، حيث يُجبر الطالب على تنظيم تعلمه ذاتيًا في ظل غياب المعلم أو الموارد. إن استثمار هذين النهجين معًا يفتح الباب أمام بناء نموذج تربوي مقاوم، مرن، نقدي، ومستقل.

بناء على ما تقدم، يقترح هذا المقال عددًا من التوصيات العملية، أبرزها: صياغة فلسفة تربوية تحررية تُدمج التعليم بالهوية والمواطنة؛ تمكين المعلمين من خلال التدريب المستمر والمشاركة في اتخاذ القرار؛ اعتماد تقييم نوعي متعدد الأدوات؛ دعم التكامل بين المدرسة والمجتمع المدني؛ وتوفير عدالة رقمية في الوصول إلى الموارد التعليمية. كما ينبغي على السياسات التعليمية أن تُعيد تعريف النجاح الأكاديمي بما يتجاوز العلامة إلى التفكير، والتفاعل، والقدرة على المبادرة.

إن مستقبل التعليم العربي لن يتغير دون الاعتراف بأن جذور الأزمة معرفية وثقافية قبل أن تكون تقنية أو لوجستية ، وأن إعادة الاعتبار للتعلم لا تبدأ من البنية التحتية فقط، بل من إعادة بناء الفلسفة التربوية على أسس إنسانية وواقعية تتفاعل مع السياق وتُنتج المعنى، وتجعل من التعلم أداة للتحرر الفكري والاجتماعي ، وهو جوهر الإصلاح الذي يطمح إلى نهضة تربوية حقيقية .

رابط قصير:
https://madar.news/?p=342991

هذا المقال يعبر عن رأي صاحبه فقط.

تعليقات

آخر الأخبار

الطقس: انخفاض على درجات الحرارة

الجمعة 2025/09/19 1:26 مساءً