الشريط الأخباري

التعليم في فلسطين: معركة وعي وهوية في زمن الإبادة . بقلم : ياسر أبوبكر

مدار نيوز، نشر بـ 2025/09/18 الساعة 4:35 مساءً

نابلس \ مدار نيوز \

يكتسب مقال الدكتور فادي قدري أبوبكر أهميته من كونه جاء في لحظة زمنية يشتد فيها الاستهداف الإسرائيلي للإنسان الفلسطيني في كل ميدان، وعلى رأسها التعليم. لقد أحسن الكاتب في الجمع بين الأرقام الدقيقة والشهادات الدامغة واللغة الوطنية التي تستنهض الوعي، مقدماً نصاً يرقى إلى أن يكون وثيقة سياسية وقانونية في آن واحد. ففي زمن تتعدد فيه الخطابات، يظل المقال الذي يوثق الدم والدمار والمعاناة بلغة مسؤولة وقادرة على النفاذ إلى وجدان القارئ شاهداً على الإبادة المستمرة، ودليلاً على أن التعليم لم يعد مجرد حق مسلوب، بل جبهة مقاومة لا تقل عن أي جبهة أخرى.

من يقرأ المقال يدرك أن الاحتلال لم يكتف بقتل الجسد الفلسطيني، بل يسعى إلى اغتيال العقل ونسف ذاكرة الأجيال. فاستشهاد ما يزيد عن ثمانية عشر ألف طالب وطالبة وتدمير مئات المدارس والجامعات، ليست أرقاماً عابرة، بل دلائل على حرب ممنهجة تستهدف رأس المال البشري الفلسطيني. إن محاولة إفراغ غزة من طلابها وجامعاتها، وتجفيف الضفة الغربية عبر الاعتقالات الواسعة التي طالت الطلبة والأساتذة والمعلمين، تمثل سياسة متكاملة ترمي إلى إضعاف الفلسطيني وإفقاده القدرة على بناء مستقبل مستقل. وهنا تتجلى أهمية المقال في فضح هذا المشروع الاستعماري أمام العالم، وتسليط الضوء على أن التعليم ليس مجرد ضحية ثانوية، بل أحد الأهداف الرئيسية للاحتلال.

إن هذا التوصيف يضعنا أمام معادلة واضحة: إذا كان الاحتلال يشن حربه على التعليم لأنه يرى فيه خطراً استراتيجياً على مشروعه الاستيطاني، فإن الرد الفلسطيني لا بد أن يكون عبر تحويل التعليم نفسه إلى ساحة مقاومة يومية. فمن خلال المدرسة والجامعة والمكتبة، يمكن أن تتجسد المقاومة بوجوه متعددة: مقاومة الوعي، مقاومة الذاكرة، ومقاومة الطمس. وهذا ما يطرحه المقال بشكل غير مباشر، حين يشدد على أن حماية التعليم واجب وطني وأممي، وأن على العالم أن يرى في المدرسة الفلسطينية خط الدفاع الأول عن السلم والكرامة الإنسانية.

وحين ننتقل من توصيف الحاضر إلى استشراف المستقبل، يتضح أن التحدي الأساسي أمام الفلسطينيين هو كيف يمكن بناء نظام تعليمي قادر على الصمود في البيئات القسرية. هنا تبرز تجربة الحركة الأسيرة كمنارة فريدة. لقد استطاع الأسرى في الزنازين أن يبتكروا مناهج بديلة، وأن يحولوا وقتهم في السجون إلى رحلة تعليمية وصقل معرفي، فخرجوا قادة ومفكرين وأدباء. هذه التجربة تثبت أن التعليم يمكن أن يولد حتى من قلب العتمة، وأن المعرفة قادرة على كسر القيود والجدران. بل أكثر من ذلك، فقد أسست هذه التجربة لمدرسة فلسطينية في التعلم الذاتي والتعاوني، حيث يتبادل الأسرى خبراتهم ومعارفهم، ويقيمون دورات ومحاضرات، ويطورون آليات للتقييم والتخطيط رغم قسوة الظروف.

استلهام هذه التجربة اليوم في غزة والضفة بات ضرورة لا خياراً. فكما حوّل الأسرى السجون إلى جامعات، يمكن تحويل الملاجئ والمنازل والمراكز المجتمعية المؤقتة إلى فضاءات تعلم مقاومة. وهذا يتطلب سياسات واستراتيجيات واضحة، من أبرزها: أولاً، تطوير مناهج تعليمية مصغرة مرنة يمكن تطبيقها في أي مكان وبأدوات بسيطة، مع الاستفادة من التكنولوجيا المحمولة حين تتوفر. ثانياً، بناء شبكات دعم أكاديمي محلية ودولية تضمن استمرار العملية التعليمية وتوثيق الاعتراف بشهادات الطلبة رغم انقطاعهم القسري. ثالثاً، دمج برامج الدعم النفسي والاجتماعي في المناهج، لأن الطالب الفلسطيني لا يواجه فقط تحدي التعلم، بل صدمة الحرب وفقدان الأهل والأصدقاء والمدرسة. رابعاً، صياغة مناهج تربط المعرفة بالهوية الوطنية، بحيث يتحول التعلم إلى أداة لتثبيت الانتماء وحماية الذاكرة من التلاشي.

وإلى جانب ذلك، لا بد من تفعيل البعد الدولي. فالمجتمع الدولي، رغم تواطئه وصمته، يبقى ساحة يجب أن يخاطبها الفلسطينيون بلغة القانون والأرقام والشهادات. التعليم في فلسطين لا يحتاج إلى عواطف موسمية، بل إلى ضغط متواصل على المنظمات الأممية مثل اليونسكو، وإلى حملات دبلوماسية تضع استهداف المدارس والجامعات في خانة جرائم الحرب التي لا تسقط بالتقادم. كما أن فضح المنظمات الاستيطانية المتطرفة مثل “ريغافيم”، التي تتبنى علناً سياسات هدم المدارس الفلسطينية، يعد واجباً سياسياً وأخلاقياً، لأنه يكشف أن الاستيطان ليس مجرد بناء غير قانوني، بل مشروعاً ممنهجاً لاقتلاع كل ما يرمز إلى المستقبل الفلسطيني.

والمطلوب أيضاً أن يتحول التعليم الفلسطيني إلى محور للعمل العربي والإسلامي والدولي، بحيث لا يُنظر إليه كملف إنساني ثانوي، بل كبوابة لحماية الهوية الفلسطينية وضمان استمرار الشعب على أرضه. وهذا يعني أن دعم التعليم يجب أن يتجاوز المساعدات المالية الطارئة، إلى بناء شراكات طويلة الأمد في تطوير المناهج، وتدريب المعلمين، وتأمين البنية التحتية البديلة. إن تحويل التعليم إلى جبهة صمود يتطلب أن يدرك الجميع أن معركة الوعي أخطر من معركة الأرض، وأن الاحتلال لا يخاف من صاروخ بقدر ما يخاف من كتاب يحمل وعياً نقدياً وهوية راسخة.

لقد أعاد مقال الدكتور فادي قدري أبوبكر التأكيد على أن التعليم الفلسطيني ليس مجرد ضحية للحرب، بل جبهة للمقاومة وبذرة للتحرر. وإذا كان الاحتلال يرى في المدرسة تهديداً، فذلك لأنها تربي جيلاً يعرف حقوقه ويعي تاريخه ويرفض الخضوع. ومن هنا، فإن الرد الفلسطيني على هذه الحرب يجب أن يكون بالمزيد من الاستثمار في المعرفة، والمزيد من الإصرار على تحويل الفصول الدراسية، مهما كانت مهدمة أو مؤقتة، إلى ساحات وعي ومقاومة.

إن التعليم الفلسطيني تحت النار اليوم، لكنّه سيبقى مقاومة لا تعرف الانكسار. سيبقى الكتاب أقوى من البندقية، وسيبقى المعلم، رغم كل الجراح، حارساً لذاكرة وطنية لا يمكن محوها. ومهما طال ليل الاحتلال، فإن الفجر سيحمله جيل تربى في أحلك الظروف على أن التعلم هو طريق الحرية، وأن المدرسة هي بوابة فلسطين نحو المستقبل .

رابط قصير:
https://madar.news/?p=345904

هذا المقال يعبر عن رأي صاحبه فقط.

تعليقات

آخر الأخبار