الذكاء الاصطناعي في التعليم العالي: من الخوف إلى استثمار يتجاوز الحدود . بقلم : ياسر أبوبكر

نابلس \ مدار نيوز \
يشهد التعليم العالي اليوم تحولات جوهرية بفعل الثورة الرقمية، ولا سيما مع بروز الذكاء الاصطناعي كأداة مركزية في إدارة المعرفة وتصميم المناهج وتقييم الأداء الأكاديمي. وقد أثار هذا التحول نقاشات متعددة، كان من أبرزها مقال المستشار د. علي شقور المنشور في صحيفة القدس بعنوان: “الذكاء الاصطناعي في التعليم العالي: من الخوف إلى الاستثمار”. ورغم ما يحمله المقال من قيمة مهمة في طرح ثنائية المخاوف والتطلعات ورسم صورة متوازنة حول مستقبل الذكاء الاصطناعي في التعليم، إلا أنه ظل أقرب إلى مقاربة عامة تحتاج إلى العمق النظري والاستدلال البحثي المقارن، وهو ما يجعل الحاجة ملحّة إلى مقالات مكمِّلة توسّع النقاش، وتدفع بالحوار الأكاديمي إلى آفاق أكثر عمقاً واتساعاً.
لم يعد الذكاء الاصطناعي سؤال المستقبل أو أداة ترفٍ معرفي. إنه واقع حاضر يفرض نفسه على الجامعات والطلبة والأساتذة معًا. ومع ذلك، ما زالت بعض الأصوات في فضائنا الأكاديمي تصرّ على النظر إليه بخوف، وكأننا أمام خطر يهدد العملية التعليمية بدل أن يكون فرصة لإعادة صياغتها.
الحقيقة التي لا مفر منها هي أن الذكاء الاصطناعي لم يأت ليقوّض التعليم، بل ليكشف عجزنا عن إدارة أدوات المعرفة الجديدة. الخوف هنا لا يعكس خطورة الذكاء الاصطناعي بقدر ما يعكس قصور السياسات والرؤى التربوية التي لا تزال حبيسة الماضي.
حين يتحدث البعض عن أن الذكاء الاصطناعي يقتل التفكير النقدي، أو يفتح باب الغش، أو يقلّص دور المعلم، فإن هذه المخاوف هي انعكاس لجمودنا لا لعيب في الأداة ذاتها. كم مرة سمعنا خبراء التربية يكررون أسماء مثل بياجيه وفيغوتسكي وبرونر وكأنها مفاتيح سحرية؟ صحيح أن هذه النظريات وضعت لبنات مهمة، لكنها ترددت كثيرًا حتى تحولت إلى شعارات محفوظة أكثر من كونها أدوات عملية.
لو أعدنا النظر بجدية، لوجدنا أن الذكاء الاصطناعي يفتح المجال ليكون الطالب أكثر استقلالية، وليعيش تجربة “التعلم بالاكتشاف” بشكل أوسع بكثير مما تخيله برونر. كما أن قدرة الطالب على إعادة بناء معرفته عبر التفاعل مع منصات ذكية تجعل أفكار فيغوتسكي عن “منطقة النمو القريبة” تبدو محدودة أمام ما يمكن أن يقدمه الذكاء الاصطناعي من فضاءات غير نهائية للتفاعل والدعم.
حين نستحضر تجربة الحركة الأسيرة الفلسطينية في سجون الاحتلال، ندرك أننا لا نتحدث عن تطبيقات نظرية أو محاكاة لفكر باولو فريري حول “التربية النقدية”. بل نحن أمام حالة تجاوزت هذا العالم النظري بكامله. الأسرى الفلسطينيون لم يقرأوا فريري ليطبقوا أفكاره، بل صاغوا، عبر قهر السجن، نظرياتهم التربوية الخاصة.
بين جدران الزنازين، ووسط القيد والحرمان، نشأت مدارس كاملة للتعلم الذاتي، ونظم للتعلم التعاوني، ومناهج تحررية صنعت وعيًا جمعيًا لا يمكن أن تضاهيه أي نظرية غربية. تجربة الحركة الأسيرة ليست مجرد دليل على صحة أفكار فريري، بل إعلان بأننا قادرون على إنتاج فكر تربوي يفوقه قوة وتجذرًا. ومن هذا المنطلق، لا ينبغي أن نتعامل مع الذكاء الاصطناعي كتهديد، بل كأداة إضافية في مسار طويل من تحويل القيود إلى أدوات تحرر.
الذكاء الاصطناعي ليس برنامجًا يُدخل البيانات ويخرج النتائج، بل هو بيئة تعليمية شاملة:
• في التعلم الذاتي، يوفر للطالب دعماً شخصياً لحظياً ويجعله قادراً على التحكم بمسار تعلمه.
• في التعلم التعاوني، يربط الطلبة عبر شبكات افتراضية تتجاوز حدود المكان والزمان.
• في التعلم التحويلي، يفتح المجال لإعادة النظر في المسلمات، ويحفز الطالب على فحص قناعاته وتوسيع وعيه.
لكننا لسنا بحاجة لأن نتكئ على أسماء المنظرين الغربيين لتبرير هذه الأبعاد. فالواقع الميداني نفسه يثبت أن الذكاء الاصطناعي يتيح ما لم يكن متاحاً من قبل، وأن من يخاف منه إنما يخاف من المستقبل.
إن الجامعات العربية والفلسطينية أمام خيار واضح: إما أن تستمر في التحذير والتردد، أو أن تقتحم مجال الذكاء الاصطناعي وتحوّله إلى فرصة لتجديد التعليم العالي. وهذا يقتضي:
1. إدماج الذكاء الاصطناعي في المناهج لا كأداة تقنية بل كجزء من الثقافة الأكاديمية.
2. تأهيل الأساتذة والطلبة لاستخدام هذه الأدوات بوعي ومسؤولية.
3. إنشاء مختبرات ابتكار محلية تُنتج تطبيقات تربوية تستجيب لاحتياجاتنا، بدلاً من الاكتفاء باستيراد منصات جاهزة.
4. إطار أخلاقي يضمن أن يظل الذكاء الاصطناعي وسيلة لتعزيز قيم العدالة والحرية الأكاديمية.
الجامعات الفلسطينية التي تعيش تحت ضغط الاحتلال والحصار المالي يمكن أن تجد في الذكاء الاصطناعي وسيلة لتعويض الفجوة، وتوسيع الوصول إلى المعرفة، ودعم البحث العلمي بأقل التكاليف. وهنا تبرز المفارقة: إذا كان الأسرى قد صنعوا تعليمًا تحرريًا في ظروف القيد والحرمان، فكيف لا تتمكن جامعاتنا الحرة من استثمار الذكاء الاصطناعي في فضاء أوسع وأرحب؟
ختاما نقول : الخوف من الذكاء الاصطناعي في التعليم العالي هو في حقيقته خوف من التغيير. لكن التاريخ والتجارب تؤكد أن التغيير هو مصدر القوة. تجربة الحركة الأسيرة علمتنا أن التعليم يولد من قلب المستحيل، وأن الإرادة قادرة على تحويل أقسى الظروف إلى مدرسة للتحرر. واليوم، نحن أمام فرصة لا تقل أهمية: أن نجعل من الذكاء الاصطناعي أداة لتجديد التعليم وإطلاق طاقات الإبداع.
لقد آن الأوان للانتقال من منطق التحذير إلى منطق الاستثمار، ومن الخوف إلى الشجاعة، ومن الاستهلاك إلى الابتكار. فالجامعات التي لا تدخل عصر الذكاء الاصطناعي بثقة، ستجد نفسها عاجزة عن مواكبة زمن يتغير بسرعة هائلة.
لا مجال للتردد. فالخوف لا يصنع تعليماً، لكن الاستثمار الواعي والشجاع يصنع مستقبل أمة.
رابط قصير:
https://madar.news/?p=346447