تفاصيل صادمة عن مجزرة كفر قاسم ..أحمد رابي الناجي من الموت يروي تفاصيل عملية الإعدام

مدار نيوز : أنهت مدينة كفر قاسم احياء الذكرى الستين لملحمتها التي حلت أمس السبت حيث شهدت مسيرة شعبية واسعة لزيارة أضرحة الشهداء ووضع أكاليل الورد عليها وتلاوة الفاتحة لأرواحهم. وتتميز هذه الفعاليات هذا العام بضخامتها وتنوعها وغناها وهذا بفضل تعاون البلدية واللجنة الشعبية في المدينة.
وزارت «القدس العربي» المدينة أمس فبدت كخلية نحل تتسابق فيها المدارس والفعاليات الأهلية للقيام بما يليق بهذه الذكرى. وهم جميعا يرون وبحق أنها تتعدى كونها مجزرة مهولة لأنها ملحمة بقاء وصمود فلسطينية.
ورغم النزيف والحصار والعزل والصدمة المستمرة منذ نكبة 1948 صممت كفرقاسم على الإفلات من أنياب الوحش الإسرائيلي والتشبث بالبيت والوطن مهما كان.
وقتها استغلت إسرائيل العدوان الثلاثي على مصر لتنفيذ خطتها بتهجير فلسطينيي الداخل المتبقين في وطنهم من خلال استنساخ مذبحة دير ياسين فقامت باستباحة كفر قاسم في اليوم الأول من الحرب، 29 أكتوبر/ تشرين الأول 1956 وغطت ترابها بدماء أهلها الأبرياء العائدين عند المساء من حقولهم وكرومهم.
ويستعيد رئيس اللجنة الشعبية في المدينة إبراهيم صرصور فصول تلك الحادثة ويفضل تسميتها بملحمة كفر قاسم لإبراز بقائها وصمودها رغم الجراح، داعيا إسرائيل للاعتراف القاطع بجريمتها.
عبرتان من كفر قاسم
وفي ظل استمرار إسرائيل في التهرب من الاعتراف بجريمتها والاكتفاء بإبداء أسف عابر على لسان بعض قادتها يضيف «في كفر قاسم عبرة لنا ولهم مفادها أننا لن ننسى ولن نغفر ولن نرحل عن أرض فلسطين مهما بلغ الظلم.
لن نسامح الجلادين حتى لو اعترفوا بالمجزرة فهذا واجب أخلاقي قانوني وفي المقابل يكفي أننا لا نربي على الحقد والكراهية». ويدعو صرصور المجتمع الفلسطيني لزيارة كفر قاسم اليوم السبت والمشاركة بالمسيرة والمهرجان الكبيرين لإحياء الذكرى، منوها أن الفعاليات التربوية والثقافية عملت وتعمل على تذويت وتعميم رواية الملحمة، مشددا على أن كفر قاسم هي عنوان بقاء فلسطينيي الداخل.
من أبرز فعاليات هذه المناسبة الوطنية التي يتوقع أن يشارك فيها الآلاف من فلسطينيي الداخل «بانوراما الشهداء»، وهي عبارة عن معرض من تصميم الفنان خالد عازم ومجموعة مهندسين قاموا بتصميم بنائه تطوعا وهو لجانب النصب التذكاري والكراسات التربوية التثقيفية المهمة وسيلة خلاقة للتعبئة ونقل الرواية الأمانة من جيل لجيل.
يمتد العرض لمدة عشرين دقيقة بالصوت والصورة. وبأسلوب إبداعي مدهش يروي الرواية بجمالية عالية وبمضامين رصينة ورشيقة معا مذهلة. وفي كل محطة يشاهد الزائر فصلا يحاكي ملحمة كفر قاسم ما سبقها وما تلاها أيضا.
الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم
كفر قاسم التي صمدت وبقيت واحترمت وصية الشهداء ووصية الزعيم العراقي الراحل عبد الكريم قاسم، وصية البقاء في وطن لا بديل عنه للفلسطينيين، شهدت في 29 أكتوبر 1956 مذبحة قتل فيها 49 شخصا وأصيب العشرات برصاص الشرطة الإسرائيلية في محاولة لتهجير أهل كفرقاسم وكل منطقة المثلث.
وقتها حجبت إسرائيل المجزرة وأجبرت بعض الشباب من قرية جلجولية المجاورة على حفر القبور ودفن الضحايا وسط تعتيم مطبق عليها لكن النائب الشيوعي في الكنيست الراحل توفيق الطيبي والناشط اليهودي العراقي اليساري لطيف دوري والصحافي اليهودي أوري أفنيري تمكنوا من فضحها وكشفها أمام العالم.
ومع ذلك اهتمت إسرائيل بالقيام بمحاكمة صورية لبعض قادة حرس الحدود المشاركين بالمجزرة وحكمت قائدهم شدمي بدفع قرش واحد، وما لبثت أن أعفت عنهم ولم يسجن أحدهم يوما واحدا أما المجرمون الكبار ممن خططوا للمجزرة وأصدروا الأوامر فظلوا كما كان متوقعا طلقاء. ولذا ليس غريبا أن يحاول أحد جرحى المذبحة، الشيخ أحمد عمر رابي (أبو محمد) الثأر من المجرمين بنفسه.
أحصدهم.. رصاصة بالرأس
ويروي رابي (77 عاما) لـ «القدس العربي» بعض ما تختزنه ذاكرته الفولاذية عن كل ما جرى وكأنه يروي أخبار حادثة وقعت قبل ستة أيام لا ستة عقود محاولا بعناء إخفاء مشاعره وانفعالاته.
وعاد أبو محمد للبلدة من العمل في كروم التفاح في ذاك اليوم الأسود وفي الطريق التقى صديقه عطا يعقوب يقود شاحنته فركبها معه سوية مع عبد الرحيم سمير بدير وآخرين.
ويستذكر سماعه إطلاق رصاص عند بلوغهم مشارف كفرقاسم وسرعان ما اعترضهم ثلاثة جنود قبالة حاجز عسكري وطلبوا منهم بصوت صارخ النزول من الشاحنة.
ويتابع «كنت أول من نزل وبادرت لسؤال الجندي: هل تريد بطاقات الهوية؟… فصرخ في وجهي: أغلق فمك وأبق بطاقتك في جيبك وسرعان ما سمعت الضابط يأمر بالعبرية: أحصدهم.
فتح جندي نار بندقيته الرشاشة نحونا وقد تمكنت من معرفته فهو أبو عبد الله الشركسي وشاهدت الطفل رياض رجا ابن الثامنة يخر من الشاحنة قتيلا فسادت حالة فوضى ورعب وعلت أصوات الفزع والوجع والأنين فيما كنا نتدافع كالمجانين وأصيب صديقي عطا برصاص في بطنه ومن « «حلاوة الروح « قفز نحوي وتمسك بي من الخلف فسقطت أرضا وشج رأسي لسقوطي على صخرة حتى غطى الدم وجهي.
ويوضح أبو محمد الذي يرتدي السواد كما في كل يوم من هذه المناسبة أنه تظاهر بالموت وكانت يده قد علقت تحت جثمان صديقه عطا وكان يستشعر بدمه الساخن «كالنار» يسيل على يده.
ساعة الإعدام لحظة بلحظة
ويضيف رابي وهو في حالة تركيز يستعيد اللحظة وكأنه في فيلم «بعد جلبة الأنين وصرخات الاستغاثة ولفظ الأنفاس من قبل نحو 30 شخصا من كفرقاسم بمشهد يشبه صورة الأغنام الفزعة وهي تساق للذبح، ساد هدوء مطبق في المكان فتحت طرف عيني وشاهدت قدمي جندي إسرائيلي وبندقيته من طراز «برن» فيما كان القائد يقول له: تثبت من موتهم برصاصة برأس كل منهم.
في تلك اللحظة قررت أن انتفض وأهجم علي الجندي وانتزع سلاحه وأثأر لكن يدي أصيبت بالخدر جراء ثقل جثة عطا فخفت أن تخونني ويفتضح أمري وعندما بلغ ناحيتي أطلق رصاصة نحو رأس عطا وغطاني بريق أخضر جراء النار وأطلق رصاصة أخرى نحوي فأصابتني بالرأس في مقدمة جبهتي واخترقت غلاف جمجمتي فسالت دمائي وبدوت ميتا.
بعد لحظات سحبت يدي العالقة وقفزت هاربا نحو زقاق بين أشجار الصبر المجاورة للطريق، ففتحوا نيرانهم نحوي وكنت أسمع أزيز الرصاص يمر على بعد سنتيمترات مني.
دست على الصبار ولم اكترث بأشواكه طلبا للنجاة ونجوت بأعجوبة. ونجح أبو محمد بالهرب وشاهد عن بعد مركبة يستقلها محمود خضر صرصور ويوسف اسماعيل صرصور فسارع مهرولا نحوهما لتحذيرهما والعرب سوية من المكان لكنه أخذ يسقط أرضا من الإرهاق فأكمل المذكوران سيرهما نحو الفخ واستشهدا برصاص الجنود بمدخل البلدة.
ويقول الناجي من المجزرة إنه دخل مغارة معتمة وظل فيها حتى الفجر وكان يحاول وقف نزيف بوضع الطين على رأسه وفي الصباح التقى حارسا عربيا في تخشيبة كان يعرفه من قبل فساعده بعدما تظاهر بأنه تعرض لحادثة سير.
وتابع «أدركت وقتها أنني الناجي الوحيد من المجزرة وأن الكشف عما صار ربما يعرضني للقتل كي لا يبقى مخبرا. ولما ارتبت به هربت من التخشيبة وسرت على الأقدام نحو الكروم ومكثت ثلاثة أيام فيها دون طعام حتى شاهدت ابن بلدي عوني طه يقود مركبته فاستوقفته ولم يكن يدري عن المجزرة. لبى طلبي بشراء الطعام لي وبنقلي ليافا دون أن أخبره بالحقيقة».
صيدلية يافا
وفي يافا دخل أبو محمد صيدلية الراحل فخري جدي الذي داواه تطوعا ولم يخبره هو الآخر بالحقيقة. ويضيف متسائلا «كنت من شدة الصدمة خائفا من حالي فكيف أبلغه؟. وبعد أيام عاد من يافا وصديقه عوني لأقاربه في القرية المجاورة جلجولية وحينما شاهده يوسف رابي رئيس المجلس المحلي لاحقا سقط أرضا وكاد يغمى عليه ولما استعاد عافيته قال منفعلا «لقد دفنتك بيدي فكيف عدت من القبر؟.
ويوضح أبو محمد أن الأمور اختلطت على يوسف لأن فتى يشبهه يدعى أحمد جودي استشهد في المجزرة. ويكشف أنه طلب منه تبليغ أقاربه بأنه حي يرزق لكنه فضل العودة ليافا لاسيما أنه كان يتيم الأب والأم منذ طفولته المبكرة.
ويضيف «طيلة سنوات لم أقو على الرجوع لكفر قاسم خوفا وكنت اكتفي بالتسلل مرة بالسنة ليلة يوم الذكرى لأضع باقة ورد على أضرحة أصدقائي وأقربائي الشهداء خاصة صديقي غازي محمود درويش وبنت شقيقتي فاطمة صرصور التي استشهدت وهي حامل بالشهر الثامن ثم أعود ليافا.
ولم يبادر أبو محمد لزيارة مستشفى حتى اندمل الجرح بشكل طبيعي بعد شهور من الإصابة فاستقر في يافا وفي أحد الأيام قرر اغتيال شدمي قائد القوة الإسرائيلية التي نفذت المذبحة فبحث عنه بمقاهي تل أبيب والقدس بناء على معلومات وصلته ولكن دون جدوى.
بيد أن الصدفة جمعته بعد سنوات مع الجندي الشركسي إياه وعن ذلك قال «في أحد مقاهي تل أبيب شاهدت مسنا يحمل عكازا فعرفته ولما سألت صاحب المقهى للتأكد أبلغني أنه كان جنديا في حرس الحدود فتقدمت منه وقلت له كيف حالك أبو عبد الله بالعربية فارتعب وسارع للسؤال: وكيف تعرفني؟.. فقلت: أنا من كفرقاسم. فصار يرتجف وما لبث أن غادر المكان بحالة يرثى لها».
أبو البنات
ويكشف أبو محمد أن يوم ميلاده يصادف ذكرى ملحمة كفر قاسم فقد ولد في 29.10.1939 ولذا فإن بناته يحتفلن به مرتين في اليوم التالي باعتبار أنه ولد مرتين لنجاته من الموت المحتوم. كما يكشف أنه تزوج في يافا التي لجأ لها بعد الملحمة من امرأة يهودية بعدما أسلمت وأنجب منها سبع بنات وصار يكنى بأبو البنات كما يقول متوددا وله منهن 15 حفيدا.
ويرفض الكشف عن أسمائهم الكاملة لكنه يقول إن اثنتين من بناته عربيتان والخمس الباقيات يهوديات لأن أمهن عادت لليهودية بعد سنوات.
وعن ذلك يقول «كان والد زوجتي يحبني ويحترمني وقبل وفاته طلب مني أن ألبي أمنيته بالسماح لها بالعودة لديانتها ففعلت وتطلقنا عن حب ورضا وما زلت أحب واحترم كل بناني وأحفادي فهم جميعا يتكافلون معي ويشاركونني حتى اليوم بإحياء ذكرى كفر قاسم. وفي مطعمي الذي أدرته في يافا كنت أروي لزبائني اليهود وبعضهم كان يفاجأ ويصدم بروايتي».
هناك من يقول إن أهالي كفر قاسم وجاراتها كانوا سيهربون بعد المجزرة لولا أوامر حظر التجول؟.. سألنا أبو محمد فنفى ذلك قطعا وقال «كانت الجهة الشرقية في البلدة مفتوحة وكان يمكن للناس أن يتركوها. وقتها كانت كفر قاسم تعد 1600 نسمة واليوم تعد نحو 25 ألف نسمة وهذه أهم عبرة للملحمة ملحمة البقاء».
القدس العربي
رابط قصير:
https://madar.news/?p=61043